شبح يجوس العالم سمع الناس وقع خطاه في زلزال طوكيو، الذي حرف محور الكرة الأرضية نحو سبع بوصات، وقلص اليوم أكثر من مايكروثانية، وأطلق أمواجاً بلغ ارتفاعها 10 أمتار، وسرعتها 500 ميل في الساعة، وقهر أكثر الاستحكامات الساحلية منعة في العالم، وشدّ اليابان مسافة قدمين نحو الأسفل. وإذا كانت هذه أرقام قابلة للقياس، فخطوات الشبح رهن الأحداث المتعاقبة، من مفاعلات "فوكوشيما" على ساحل المحيط الهادي حتى آبار النفط على سواحل المحيطين الهندي والأطلسي، وأسواقه في نيويورك ولندن، ومستشفيات ومذابح ومقابر ضحاياه في المنطقة العربية. هذا الشبح هو الطاقة، وقصة ما تفعله الطاقة (بجميع أنواعها التقليدية والمتجددة والبديلة) قصة داخل ألف قصة وقصة، واللاعبون فيها كما في "ألف ليلة وليلة" سلاطين، وسياسيون، وتجار، وعلماء، ومضاربون، ومحتالون، وصعاليك، ولصوص، وحتى شياطين، وكائنات أسطورية مصنوعة من أرقام وتقتات على الأرقام. وتتعلق أنظار العالم حالياً باليابان حيث يتقرر مصير الطاقة النووية، وهي أكثر بلد مؤتمن عليها، وأكبر مستخدم لها، وقد خبرها كضحية لأول وآخر حرب نووية في التاريخ. والرهان على روح انضباط اليابانيين المشهورة، وحكمتهم التي تقول "أن تسقط سبع مرات يعني أن تقف على قدميك ثماني مرات". فعدد المفاعلات في اليابان 55 وكلها تعمل بشكل سليم، وحتى "فوكوشيما" الذي يربو عمره على 40 عاماً وكان ينبغي وقفه عن العمل، انغلق فورياً حال وقوع الزلزال، ولم تسجل حتى الآن سوى ست حالات بين عاملي الطوارئ في المفاعل تعرضوا لمستوى أشعة أكثر من المسموح به، ولا يوجد حتى الآن بين نحو 20 ألف وفاة بسبب الزلزال وتسونامي، حالة وفاة واحدة سببها المفاعل. لكن إصابة الاقتصاد الياباني نتيجة الحادث بالغة، ويصعب تقدير حجمها حسب تقرير "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" التي تتوقع انكماشاً حاداً على المدى القصير، قد يعيد اليابان إلى الركود الاقتصادي الذي لم تخرج منه إلاّ أخيراً. وبعث حادث "فوكوشيما" أسطورة "فاوست" الذي باع روحه للشيطان مقابل الحصول على المعرفة المطلقة. ريتشارد فولك، أستاذ القانون الدولي في جامعة برنستون بالولايات المتحدة يعتقد أن خطر "تدمير الزلزال وتسونامي في اليابان ضاعفته مرات عدة صفقة فاوست حول الطاقة النووية". ويمثل فولك وجهة نظر قوية تعتبر الطاقة النووية شراً مطلقاً لا يمكن التحكم به، سواء استخدمت لأغراض حربية أو سلمية. مع ذلك فهو لا ينكر أنها تعتبر المصدر الذي يستجيب لحاجات العالم للطاقة في المستقبل لمواجهة خطر نفاد احتياطيات النفط، ولمكافحة الاحترار العالمي بسبب غازات الكربون المنبعثة عن حرق النفط وغيره من أنواع الوقود ألأحفوري. ويذكر أن بلدان قارة آسيا وحدها تنشئ حالياً ثلاثة آلاف مفاعل نووي جديد. "ميشيو كاكو"، أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة "نيويورك سيتي"، يتعامل مع "صفقة فاوست" بعقلية علماء الفيزياء الذين يحذرون تلامذتهم: "لا تقل إني جربت ذلك من قبل ولم يعمل"! فهو يدعو لمراجعة نظرية الاحتمالات لتقدير خطر المفاعلات النووية، ومراجعة تصميم المفاعلات، وأخيراً مراجعة الثمن الذي يتوجب دفعه مقابل الطاقة النووية. "فاوست تنازل عن روحه للشيطان من أجل الحصول على قوة لا حدّ لها، فهل نحن على استعداد لعقد صفقة فاوست"؟ ولا أعرف عن أي روح يتحدث كاكو المشهور بكتابه المترجم للعربية "فيزياء المستحيل". فنحن في مطلع القرن الثاني من إزهاق الغرب ملايين الأرواح العربية لأجل النفط. وشرع العرب أخيراً بتوظيف مئات الملايين من الدولارات على إنشاء مفاعلات نووية يعتبرونها ضرورية ليس للحصول على الطاقة فحسب، بل لأنها هياكل ارتكازية للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي والقدرة الاستراتيجية. ولا يمكن الطلب من البلدان العربية التخلي عن مشاريعها النووية، بل متابعتها عبر لجان ومؤتمرات شفافة مفتوحة للرأي العام الداخلي والخارجي. ويمكن تصور خلفية الثورات والحروب في المنطقة من رقم 85 مليون برميل نفط تباع يومياً في الأسواق العالمية، أكثر من نصفها مصدره البلدان العربية. ولا تمثل أرقام الإنتاج وحدها أهمية النفط العربي، بل تمثلها كلفة استكشافه وإنتاجه التي تبلغ في المعدل 7 دولارات للبرميل، في حين يبلغ المعدل العالمي 30 دولاراً للبرميل، وتبلغ الكلفة 41 دولاراً في منطقة خليج المكسيك بالولايات المتحدة. ومع ذلك فأسعار النفط موحدة، حسب تصنيف نوعيتها، ونفط ليبيا التي تصدر يومياً أكثر من مليون برميل مشهور بحلاوته، وقد ارتعدت فرائص السوق العالمية حالما بدأت الثورة في ليبيا. وإذا كان النفط المصنف حلواً على سبيل المثال يُباع بسعر 92 دولاراً للبرميل، بغض النظر عمّا إذا كانت كلفة إنتاجه 11 سنتاً أو 88 سنتاً فإن جزءاً كبيراً من فرق سعره لا يحصل عليه منتجو النفط، ولا مجهزوه أو الذين يقومون بتصفيته، بل متاجرون به في نيويورك ولندن يرصدون الوقائع الخفية والملغزة بحثاً عن اللايقين في السوق، واللايقين الذي يراهنون عليه مصدر أرباحهم. يذكر ذلك ستيف ليفين مؤلف كتاب "النفط والمجد"، الذي يعتبر المتاجرين مسؤولين عن القفزات في أسعار النفط. ويذكر أن بين المتاجرين عرباً واسعي الاطلاع يحددون قبل الجميع بأن خطوة معينة من ليبيا على سبيل المثال قد يمتد أثرها إلى الجزائر أو السعودية، وترفع بالتالي أسعار النفط. ولا يعتبر "ليفين" عملهم هذا متهوراً أو مضاربة خسيسة، بل يعتبره ضرورياً لرفع أو خفض أسعار النفط وعقلنة السوق. ويمكن تصديق ذلك إذا علمنا أن عدداً متزايداً من هؤلاء المضاربين أجهزة كومبيوتر تتعامل بالحسابات اللوغارثمية فقط، وتجعل الأسواق تعمل بسرعة أكثر من أي وقت مضى. هل يعني ذلك انهيار السوق كما نعرفها؟ تجيب عن السؤال بالإيجاب ليزا مارغونيلي، مؤلفة كتاب "النفط في الدماغ". والجانب الذي انهار يخص المستهلكين الأميركيين، الذين يدفعون حالياً مليار دولار يومياً على وقود البنزين. وتتساءل مارغونيلي عما إذا كان الأميركيون يعلمون بأنهم كانوا يتمتعون كل هذه السنوات بالوقود الرخيص على حساب العرب، وتدعو لوقف ما تسميه نزيف "الأموال الطائلة التي يمكن إنفاقها على أي شيء؛ من إنشاء الجسور، والرعاية الصحية، وحتى مشاتل زهور النرجس، أو تدريس الكاراتيه"! باقة زهور نرجس عربية لمارغونيلي من عرب قلوبهم كالصخر الجلمود لا تتحطم إذ يرون أشقاءهم القتلى يحتمون بقاتليهم، بل يربون أجيالاً جديدة قلوبها في عقولها.