مرة أخرى تقوم الولايات المتحدة بقصف بلد مسلم من أجل تحرير شعبه من حكامه الدمويين. ومرة أخرى يُقال لنا إن مدنيين أبرياء يتعرضون للمذابح، وإن على الولايات المتحدة أن تتدخل لاعتبارات أخلاقية بصفتها أمة كبيرة وعظيمة. غير أن الولايات المتحدة لم يكن عليها أن تدخل في هذه الحالة إطلاقاً – حتى في إطار ائتلاف أوسع حاصل على تفويض من الأمم المتحدة لفرض منطقة حظر للطيران. ومما لا شك فيه أنه لا ينبغي تجاهل الأسباب الإنسانية؛ فالكثير من الأميركيين مازالوا يتذكرون بأسف كبير فشل إدارة كلينتون في التدخل للحؤول دون وقوع مذبحة رواندا عام 1994، عندما كان باستطاعة بضعة آلاف جندي مسلحين بأسلحة خفيفة إنقاذ مئات الآلاف. ولكن، لماذا ليبيا مختلفة عن رواندا؟ ولماذا لا ينبغي للولايات المتحدة أن تتدخل هناك؟ أولاً، لأنها تمتلك النفط والغاز، وأي عمل عسكري أميركي هناك سيُنظر إليه من قبل الكثيرين عبر العالم على أن دافعه الوحيد، هو الرغبة في سرقة موارد البلاد. شيء سخيف بالطبع، ولكن أعداء الولايات المتحدة سيكررون هذا الاتهام، وهو اتهام معقول بالنسبة لمعظم الناس عبر العالم الذين لا يستطيعون تخيل حكومة تتطوع لبذل الدماء والمال من أجل مساعدة أجانب، أجانب من دين آخر. ولا جدوى من المجادلة بأن السيطرة العسكرية على أراض وامتلاك مواردها الطبيعية شيئان مختلفان تماماً بالنسبة لأي محتل ملتزم بالقانون. فكون القوات العسكرية الأميركية لم تقم بأي محاولة للاستيلاء على منشآت العراق النفطية - أو حتى تأمينها - خلال غزو 2003 أو بعده حقيقة لا يعرفها إلا قلة؛ ثم إنها حتى عندما تكون معروفة، فإنها توصف بأنها غير ذات أهمية، أو بأنها خداع مدروس جداً. ولأن الاتهام يصدَّق على نطاق واسع جداً، فقد تحمل الزعماء السياسيون العراقيون مشقة التفاوض بشأن عقود نفطية مع شركات غير أميركية، ليُظهروا أنهم ليسوا دمى بأيدي الأميركيين (ومما لا شك فيه أن شينخوا جروب، وسينوشيم، ويونيبيك، وتشاينا ناشيونال أوفشور أويل... جميعها ممتنة للولايات المتحدة لأنها منحتها إمكانية الوصول إلى النفط العراقي، رغم أنها لم تعرض أي مساهمة في التريليون دولار الذي كلفه التدخل حتى الآن). وبالتالي، فمهما تفعل الولايات المتحدة في ليبيا، فإنها لن تساهم إلا في تكريس السمعة التي لا تستحقها وباتت مترسخة في العالم اليوم كبلد معتد. أما السبب الثاني الذي يجعل ليبيا مختلفة عن رواندا، فهو الدين. ولننظر على سبيل المثال إلى تجربتنا في أفغانستان حيث يندد الأئمة بشكل روتيني عبر أرجاء البلاد بالتدخل الأميركي باعتباره هجوماً مقنعاً على الإسلام، وكوسيلة لتعبيد الطريق أمام المسيحية. ويشمل هذا الأئمة الذين يدفع رواتبهم دافع الضرائب الأميركي عبر الحكومة الأفغانية التي تقوم بصرف المال. وعلاوة على ذلك، يقول الزعماء الدينيون الأفغان في كثير من الأحيان إن الأميركيين إنما يروجون لحقوق النساء ويشجعون عليها من أجل تشجيع النساء على شق عصا الطاعة على آبائهن وأزواجهن، وبالتالي إلحاق العار بالعائلات الأفغانية وإضعاف مقاومتها لاعتناق المسيحية. ومرة أخرى، ولأنه ليس ثمة أفغاني عادي قد يحلم بالسفر إلى النصف الآخر من الكرة الأرضية لمساعدة الأميركيين، أو مساعدة أي شخص ليس من أتباع دينه، فإن مثل هذه الاتهامات تصدَّق في العالم أجمع تقريباً. ولعل الهجوم الإرهابي الذي استهدف جندياً أميركياً مؤخراً يوضح هذه الظاهرة جيداً. فقد سُمع "آريد أوكا"، الذي قتل جنديين من سلاح الجو وجرح اثنين آخرين بقاعدة "فرانكفورت" في الثاني من مارس الجاري، وهو يردد "الله أكبر" عندما أطلق النار من سلاحه. وأوكا هذا من كوسوفو، التي تصعد إلى الواجهة اليوم باعتبارها أول دولة مسلمة في أوروبا نتيجة الحملة الجوية التي شنها "الناتو" ضد القادة الصربيين الذين كانوا يحكمون الإقليم. والواقع أن العديد من سكان كوسوفو ممتون للولايات المتحدة لأنها حررتهم؛ غير أن ثمة أئمة يحذرون في خطبهم من التأثير الخبيث للولايات المتحدة والغرب في كوسوفو – وبصوت أعلى مؤخراً بسبب حظر للحجاب في مدارسهم. فرغم أن الزعماء المسلمين المحليين هم من فرضوا الحظر، بدون أي تدخل أو مشاركة أميركية؛ فإن الأئمة يدَّعون العكس، وينددون في الوقت نفسه بالتدخلات التي تقودها الولايات المتحدة في بلدان إسلامية أخرى. وقد تبين أن دافع "أوكا" المعلَن لإطلاق النار هو شريط فيديو مزعوم نشر على الإنترنت يُظهر جنوداً أميركيين يغتصبون نساء مسلمات في أفغانستان. ولكن "أوكا" لم يستطع تقديم أي شريط مثل هذا للشرطة الألمانية. وعلى ما يبدو، فإنه لا وجود لأي شريط من هذا النوع أصلاً؛ ولكن بدون شك أن "أوكا "سمع عنه في المسجد الذي يتردد عليه. الواقع أنه لا يمكن السماح بتكرار الأخطاء نفسها في ليبيا. فبغض النظر عن حسن نواياها، إلا أن الولايات المتحدة ستصَّور مرة أخرى على أنها معتدية ومناوئة للمسلمين، مما سيولد مزيداً من الأعمال الإرهابية. ثم إن حتى قرار الجامعة العربية الذي أشاد به الكثيرون ويدعو إلى منطقة لحظر الطيران حذر من أي "غزو" واستبعد أي هجوم على الدفاعات الجوية الليبية – فمن الواضح أن الموقِّعين لا يمانعون لو تعرض الطيارون (الأميركيون على ما يفترض) الذين يقومون بدوريات مراقبة في الأجواء الليبية لصواريخ مضادة للطائرات. ثم إن الجيش الأميركي تجاهل حقيقة أن صواريخ كروز والقنابل الجوية لا تدمر منشآت عسكرية فحسب، وإنما تقتل الناس أيضاً؛ وأنه قريباً ستكون ثمة صور لأطفال قتلى تعرضهم بعض الفضائيات على شاشتها. وعليه، فلندع الجامعة العربية أو منظمة "المؤتمر الإسلامي" الأكبر بأعضائها الـ57، والتي تمتلك مقاتلات وجنوداً، تتولى القيام بتدخل إنساني بحيث تدفع هي كلفته من حيث المال والدماء. في هذه الحالة على الأقل لن يتهم أحد الولايات المتحدة بمهاجة الإسلام مرة أخرى! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إدوارد لوتواك زميل مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في واشنطن ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي إنترناشيونال"