كنت قد كتبت في الأسبوع الماضي عن محاذير التدخل الخارجي في ليبيا، وذلك مع الاعتراف بطبيعة الحال بحاجة الشعب الليبي إلى الحماية من الهجمات الجوية والبحرية للقوات النظامية على الثوار الليبيين. كانت التجربة فريدة في إطار التحولات التي تمت في تونس ومصر في الشهرين الماضيين، ففي البلدين استسلمت القيادتان للإرادة الشعبية عندما وجدتا ألا مناص من ذلك، أما في ليبيا فاختلفت الخبرة تماماً على نحو ما رأينا وما زلنا نرى. ولعل ذلك يفسر -مع عوامل أخرى- الموقف المتفرد لجامعة الدول العربية مما يجري في ليبيا. بدأت القصة بقرار على مستوى المندوبين الدائمين يمنع مشاركة ليبيا في اجتماعات الجامعة ومؤسساتها، ثم جاءت الخطوة التالية في اجتماع المجلس الوزاري في 2 مارس الجاري، والذي ندد بجرائم السلطات الليبية، ودعا إلى الوقف الفوري لأعمال العنف، ورفض على نحو قاطع كافة أشكال التدخل الأجنبي في ليبيا. لكن المجلس دعا في اجتماعه، يوم 12مارس، إلى فرض حظر جوي على ليبيا بهدف حماية المدنيين، وطلب من مجلس الأمن فرض هذا الحظر، وهي خطوة لبّت جزئياً طلب الدول الغربية التي اشترطت تأييداً عربياً لفرض هذا الحظر. وعندما انتقلت الكرة إلى ملعب مجلس الأمن أصدر قراراً في 17 مارس يفرض حظراً للطيران في مناطق من ليبيا، ويخول الدول استخدام القوة الجوية لمنع تحركات الكتائب الموالية للقيادة الليبية براً وجواً، مع التعهد بعدم احتلال ليبيا، أو إرسال قوات برية أجنبية إلى أراضيها. وبدا منطوق القرار متسقاً مع معنى الحظر الذي ألفناه في التجربة السابقة للحظر الجوي على ليبيا إبان أزمة لوكربي، أو على العراق في عهد صدام عقب إخراج قواته من الكويت لحرمان طيرانه من التحليق فوق أي من المنطقتين الشمالية والجنوبية في العراق. وبعد إرباك قصير تسبب فيه قرار معلن للقيادة الليبية لم يُنفذ بوقف فوري لإطلاق النار ضد الثوار لحماية المدنيين، بدأ تطبيق قرار مجلس الأمن بشكل يختلف عن المفهوم التقليدي للحظر الجوي، بعد أن أعطت قمة باريس، في 19 مارس، الضوء الأخضر لدول التحالف المشاركة في فرض الحظر الجوي، وبينها خمس دول عربية، لبدء العمليات العسكرية التي تضمنت ضرب دبابات وآليات موالية للزعيم الليبي في شرق البلاد، وإطلاق صواريخ "كروز" الأميركية لضرب منظومة الصواريخ الدفاعية الليبية، ويعتقد أنها استهدفت قواعد عسكرية ليبية. من الطبيعي أن يكون الثوار الليبيون سعداء بهذه التطورات التي تجنبهم مذابح كان لابد أن تقع إذا انهارت مقاومتهم للنظام الليبي. لكن السؤال يبقى: من المسؤول عن كل ما وقع وما سيؤول إليه المصير في ليبيا؟ لا شك أن المسؤولية تقع على النظام الليبي نفسه، ليس فقط لتعامله العنيف مع الثوار حالياً، وإنما لمجمل سياساته طيلة ما يزيد عن الأربعين عاماً، والتي جعلت الشعب الليبي متعطشاً للتغيير خاصة وقد نضجت مقوماته في الدول المحيطة بليبيا. ومن الطبيعي كذلك أن تكون الدول العربية مسؤولة عما جرى، لأنها بداية هي التي أعطت الشرعية لمجلس الأمن كي يتولى تطبيق الحظر الجوي، وتخلت عن مسؤوليتها تجاه "الملف الليبي"، كما فعلت مع ملفات أخرى عديدة. فبعد أكثر من ستين عاماً على إنشاء جامعة الدول العربية، ما تزال هذه الدول لا تملك آلية فعالة لحل أزماتها الداخلية أو فيما بينها. أما الدول الكبرى فلا تسأل عن شيء رغم مصلحتها الأكيدة فيما يجري الآن في ليبيا، وذلك لأن السياسات الليبية والعربية أعطتها حق التدخل، وهي بموجب هذا التدخل تستطيع تضييق وتوسيع نطاق عملياتها وتحركاتها في ليبيا وفقاً لمصالحها، فما تقرر لحماية الشعب الليبي قد ينفذ لتحقيق المصالح الضيقة للقوى الكبرى، وما يسمى الآن حظراً جوياً قد يُطور لاحقاً إلى ما هو أخطر بكثير بما في ذلك احتمال التدخل البري. ولا مجال هنا للرد بأن قرار مجلس الأمن لا يسمح بهذا، فواقع الأمر أن تغيير "نطاق اختصاص" القوات الغربية يمكن أن يتم بقرار آخر من مجلس الأمن. وإذا كانت روسيا والصين بمقدورهما الحيلولة دون ذلك، فإن حكومات الدول ذات الصلة تستطيع تغييره من تلقاء نفسها دون سند من الشرعية الدولية. وثمة سوابق خطيرة في هذا الصدد حين استبدلت شرعية الأمم المتحدة بشرعية حلف الأطلسي. الموقف خطير إذن، ليس لأن الحماية الدولية قد امتدت للشعب الليبي، فهذا مطلب يتفق عليه الجميع، لكن لأن مجريات الأمور في ليبيا لم تعد بيد شعبها ولا الدول العربية، وإنما بأيدي القوى الكبرى التي تملك مصالح مهمة للغاية هناك. فماذا عن المستقبل؟ ثمة سيناريوهان محتملان لا ثالث لهما، لأن الثالث الذي يتضمن انتصار النظام الليبي على النظام الدولي مستحيل، سواءً لأن المواجهة بينهما هي مواجهة بين قوتين نظاميتين غير متكافئتين إطلاقاً، أو لأن الشعب الليبي -أو على الأقل قطاعات مهمة منه- ليس مستعداً لدعم نظام حكمه ضد التدخل الدولي. السيناريو الأول هو بقاء القذافي محصوراً في بقعة من الأرض، قد تكون طرابلس أو غرب ليبيا على سبيل المثال، مع تقييد حركته خارج هذه المنطقة كما جرى مع صدام حسين في الحالة العراقية (لاحظ أن الدولتين نفطيتان). وفي هذا الإطار يمكن التعامل مع القذافي في حدود معينة إلى أن تنضج ظروف التغيير بالكامل، فتصل إلى الحد الذي يمكن من إتمام هذا التغيير واختفاء النظام الليبي. وقد استغرق هذا المشهد في العراق ثلاثة عشر عاماً (1991- 2003) ومع ذلك تم التغيير في النهاية بفعل قوى خارجية عبثت بمقدرات العراق وشعبه. أما السيناريو الآخر فهو الإنهاء الفوري والسريع نسبياً للنظام الليبي، وإفساح المجال أمام الثوار لإعادة صياغة معادلة السياسة والحكم في ليبيا، وهو مشهد سوف يشوبه بالتأكيد قدر من الفوضى يميز السنوات اللاحقة لأي تغيير ثوري، وقد يطول أمد هذه الفوضى فتلقي بظلالها على تماسك ليبيا ووحدتها، وقد تقصر المدة فيعلن -بعد ميلاد عسير- عن تجربة جديدة للديمقراطية في الوطن العربي المنكوب بغيابها. وفي كل الأحوال تبقى الخشية من أن تكون ليبيا ومقدراتها، وليس القذافي وسياساته، هي الهدف.