قبل ساعات من تجمع جماهيري دعت المعارضة لتنظيمه عصر السبت الماضي في "ميدان الاستقلال" بوسط العاصمة داكار، أعلنت السلطات السنغالية إجهاض محاولة انقلابية باعتقال بعض أعضائها. وللربط بين الحدثين، سارع وزير العدل السنغالي إلى القول إن "أعضاء الكوماندوز لهم صلة بجماعات المعارضة". ليس للسنغال تاريخ في الانقلابات العسكرية، لكن الحدثين معاً يأتيان بالتزامن مع مرور 11 عاماً على رئاسة عبدالله واد الذي يتطلع إلى ولاية رئاسية ثالثة. وقد فجر إصرار واد على خوض الانتخابات القادمة، خلافاً لنص الدستور، غضب المعارضين السنغاليين، وأثار استياء دوائر أخرى ترى أن المحامي القدير والأستاذ الجامعي السابق تحول من رمز للنضال الديمقراطي طويل النفس في إفريقيا إلى نسخة عادية من نماذج الحكام الآخرين في القارة. وقد بدا واد لبعض الوقت منشغلاً بتوطيد وترسيخ آليات التداول السلمي على السلطة في بلدان إفريقيا، كما دافع من على المنابر الدولية عن سجل القارة في هذا المجال، داعياً إلى منظور جديد للعلاقة بين التطور الاقتصادي والتطور الديمقراطي. كما أنه صاحب مخطط "أوميغا" الشهير الذي انطلقت منه مبادرة "نيباد" حول "الشراكة الجديدة لتنمية إفريقيا". ولد عبدالله واد في مدينة "كبمير" (وسط الغرب السنغالي) عام 1926، وتلقى تعليمه في مدارسها، قبل أن يلتحق بجامعة "باسانسون" في فرنسا، ثم جامعة "غرونوبل" التي نال منها شهادة دكتوراه في القانون وأخرى في العلوم الاقتصادية. وبعد عودته إلى السنغال عمل محامياً، ثم مدرساً في جامعة داكار حيث ترقى إلى أن أصبح أستاذاً ثم عميداً لكلية القانون. وخلال الثمانينيات، درّس في جامعة "بوسطن" الأميركية وجامعة "باريس الثانية"، وعمل خبيراً لدى الأمم المتحدة، ورئيساً لفريق خبراء منظمة الوحدة الإفريقية. وكان واد منخرطاً في العمل السياسي، فأسس "الحزب الديمقراطي السنغالي" عام 1974، وفاز بعضوية البرلمان عام 1978، ثم أعيد انتخابه عام 1983. ورغم مواقفه المعارضة، فقد شارك في ثلاث حكومات بين عامي 1991 و1998، مبرراً ذلك بـ"مقتضيات اللعبة الديمقراطية"! وبعد أن شارك في خمسة انتخابات رئاسية لم يوفق في أي منها، استطاع أخيراً الفوز بانتخابات عام 2000، ليشكل حكومة ائتلافية برئاسة ثاني أقوى منافس له، وهو مصطفى نياس الذي دعمه في الدور الثاني. لكن بعد أقل من سنة أقال واد رئيس حكومته وتفككت "جبهة التناوب" التي كانا قد أسساها معاً. ورغم ذلك فقد شهدت الولاية الأولى للرئيس واد، حركة اقتصادية نشطة؛ فسجلت ارتفاعاً في معدلات النمو العام، وانخفاضاً في مؤشرات البطالة والفقر والتضخم والإعالة والمديونية، كما نشطت مشاريع البنية التحتية، وانتعش قطاع الخدمات... مما ساعد واد على الفوز بولاية ثانية في الشوط الأول من انتخابات 2007، وكان رئيسا حكومته السابقين، نياس وإدريسا شيخا، أهم منافسين له فيها. ويؤخذ على واد ميله لليبرالية على النمط الأميركي، مما يؤذي الفقراء الذين يشكلون أغلبية السنغاليين. أما في مجال السياسة الخارجية، فهو يعطي الأولوية لعلاقاته مع واشنطن على حساب العلاقة مع المستعمر الفرنسي السابق، ويُظهر حماساً للوحدة الإفريقية، وانفتاحاً على العالم العربي. وقد أطلق دعوات متكررة لترشيد العلاقات الإسلامية المسيحية، وأعلن في قمة داكار الإسلامية عام 2008، نهاية عصر الصليبيين والجهاديين، استكمالا لقرارات قمة داكار الأخرى برئاسته حول الإرهاب والإسلاموفوبيا وحوار الحضارات، وعطفاً على القمة الإسلامية التي عقدت في داكار عام 1991 برئاسة سلفه ضيوف، حين أسقطت منظمة المؤتمر الإسلامي مصطلح الجهاد من وثائقها حول القدس. وقد تراجعت شعبية واد خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، بسبب ارتفاع أسعار المواد الأساسية، وتزايد البطالة والإحباط الاجتماعي، وسوء تعامل الحكومة مع كارثة الأمطار الغزيرة التي تهاطلت على البلاد صيف العام الماضي. إلا أن أهم سبب للتوتر السياسي الحالي هو مسألتا التمديد والتوريث. ففي عام 2009 أعلن واد عزمه الترشح لفترة رئاسية ثالثة، بعد أن كان قد تعهد بخلاف ذلك في انتخابات 2007. وقد ربطت المعارضة بين إصرار واد على الترشح مجدداً وبين وجود مخطط لتوريث الحكم لابنه كريم واد؛ فالرئيس تجاوز الخامسة والثمانين، ويقال إنه يعاني من أمراض عدة ولن ويستطيع إكمال ولاية ثالثة. هذا علاوة على أن التوريث لاقي نجاحاً في بعض الدول الإفريقية التي شهدت انتقال الحكم إلى الابن من الأب بعد وفاته، كما حدث في الجابون (بونجو) والكونجو الديمقراطي (كابيلا) والتوجو (جناسينجبا). ومما يعزز احتمالية سيناريو التوريث في السنغال أيضاً أن كريم الذي أنشأ حركة "جيل الواقع"، أصبح الساعد الأيمن لوالده الرئيس، حيث ولاه عدة مناصب منذ عام 2001 آخرها حقيبة الطاقة التي يشغلها في الحكومة الحالية، وعادة ما يسند إليه أكثر الملفات العامة حيوية. لكن كريم، المولود لأم فرنسية عام 1968 والمتزوج من امرأة فرنسية أيضاً، لا يحظى بشعبية كبيرة في بلاده، حيث هزم أمام مرشح المعارضة في المنافسة الانتخابية على منصب عمدة بلدية داكار العام الماضي. ويعتبر معارضو عبدالله واد أن في إصراره الحالي على تغيير الدستور للتمكن من حكم البلاد مرة ثالثة، وقبل هذا قيامه عام 2001 بتعديل دستوري يمنحه صلاحية حل البرلمان... ما يكفي لتقويض صورته كمدافع عن الديمقراطية في إفريقيا. ومع تصاعد الجدل في السنغال حول التمديد والتوريث، غيّر المحتجون هناك اسم ساحة الاستقلال في داكار إلى "ميدان التحرير"، تيمناً بالثورة المصرية أولا، وكإشارة إلى تشابه المشكلات التي دفعت أو تدفع الناس للاحتجاج ثانياً. وخلال العامين الماضيين انشغل واد بما بدا أنه عودة لعصر الانقلابات العسكرية في إفريقيا، وكان معنياً على نحو خاص -معارضة أو تأييداً- بالانقلابات العسكرية في كل من موريتانيا وغينيا والنيجر ومدغشقر. لكن هاهو رئيس البلد الذي تميز بالاستقرار وبحرفية جيشه وبعده عن السياسة، ينشغل بما قال إنها محاولة انقلابية استهدفت نظام حكمه، بينما اعتبرتها المعارضة مجرد حيلة من جانبه لنيل ولاية رئاسية ثالثة. ومهما يكن فالعلاقة المستجدة بين الجيوش الصامتة وميادين التحرير الثائرة، والتي ما تزال علاقة ملتبسة وغير واضحة، تفرض على واد إعادة النظر في أجندات كثيرة، يتصدرها التمديد والتوريث. محمد ولد المنى