كتب المؤرخ البريطاني المعروف"نيال فيرجسون" معلقا ًعلى الثورات العربية الراهنة في مقالة أخيرة بعنوان "ثورات غير أميركية" في أسبوعية "نيوزويك"، معتبراً أنها غير مهيأة لأن تفضي إلى تحولات ديمقراطية حقيقية. وانتقد الكاتب حماس الإدارة الأميركية لهذه الثورات، معتبراً أن الأميركيين مولعون بالثورات، لأن أمتهم تولدت عن ثورة ونشأت عبر حرب ثورية، ولذا انحازوا دوماً للثورات خارج بلادهم. فالآباء المؤسسون للولايات المتحدة تغنوا بالثورة الفرنسية واتخذوها نموذجاً لهم ودافعوا عن العنف الدموي الذي انتهت إليه. بل إنهم تحمسوا بالوتيرة نفسها للثورتين البلشفية والصينية في بدايتيهما. إنه "الوهم" ذاته الذي ولدته حسب "فيرجسون" الانتفاضات العربية الأخيرة، في حين أنها تستجيب لمنطق الثورات غير الأميركية الأخرى في سماتها الأساسية: المرور بفترات اضطراب طويلة، الطابع العنيف الراديكالي، والعدوانية إزاء الخارج. ويخلص الكاتب إلى أن المأزق الذي يواجه الآن الثورات العربية هو غياب قوى ديمقراطية حقيقية، مما سيفسح المجال "للتنظيمات الإسلامية المتطرفة" لكي تستأثر بالحكم وتشن العدوان على البلدان الأخرى (يشير هنا بوضوح لإسرائيل)، كما وقع من قبل للثورات الفرنسية والسوفييتية والصينية. ليس هذا الموقف بالنشاز داخل الدوائر الفكرية والاستراتيجية الغربية، التي تكرس في أيامنا اهتماماً واسعاً بالثورات العربية المفاجئة. ومن الجلي أن الإشكالية التي تؤطر هذا الجدل حول آفاق التحول الديمقراطي في الساحات الثورية العربية، هي قدرة المجتمعات العربية على الانتقال من الحالة الاستبدادية بتخطي العوائق "القيمية" و"الثقافية" المكرسة للعقلية التسلطية والتصورات الأحادية الاطلاقية للنظام السياسي. وقد أصدر "فيرجسون" نفسه مؤخراً كتاباً مثيراً بعنوان "الحضارة:الغرب والبقية"، قدم فيه فرضية تفسيرية مثيرة للجدل حول مسببات نجاح الغرب (أميركا الشمالية وأوروبا الشرقية) في التحديث السياسي والتنموي في مقابل فشل بقية العالم (آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية). وتتمحور هذه المسببات حسب الكاتب في عوامل ستة هي: أولاً: الفاعلية التنافسية داخل المجتمع الغربي الواحد وما بين الأمم الغربية، مما أفضى إلى بلورة مؤسسات قوية ومستقرة لحفظ التوازن وتنظيم الديناميكية الاجتماعية، كما دفع عقلية الإبداع والاكتشاف التقني، في الوقت الذي عجزت الإمبراطوريات الآسيوية القوية (العثمانية والمنغولية والصينية) عن إبداع مثل هذه المؤسسات فانهارت أمام التفوق الغربي. ثانيا:الطابع الأوروبي المميز للثورة العلمية الحديثة (من كوبرنيك ألى نيوتن)، على الرغم من استفادتها من إسهامات المسلمين في مجالات الجغرافيا والطب والفلسفة والرياضيات. إلا أن المؤلف يرى أن المسيحيين الغربيين وظفوا معارفهم العلمية لتغيير العالم، في حين أن المسلمين اعتبروا من المحرم "بث الأسرار السماوية". ثالثاً: أهمية الملكية الخاصة بصفتها دعامة الدولة وسبب وجودها، مما يؤدي إلى سيادة القانون الذي سيشكل قادة النظام التمثيلي الديمقراطي. رابعاً: أهمية الطب في تنمية الرفاهية الإنسانية والاجتماعية. خامساً: تطور ونمو المجتمع الاستهلاكي الذي لا بد منه من أجل دفع الحركية الصناعية والتقنية. سادساً: الأخلاق البروتستانتية للشغل التي تشجع التوفير والجهد وتفضي إلى تراكم الرأسمال. لا تهدف هذه الإشارة إلى كتاب "فيرجسون" عرض هذه الأطروحة الهشة علمياً، وإنما تبيان دلالتها في استكناه واستشراف الوضع العربي الراهن. فما يتبين بوضوح هنا هو الزعم أن الثورات العربية، وإن قوضت أنظمة استبدادية قمعية وولدت ديناميكية تحول جذري، إلا أنها تفتقد للمرتكزات الموضوعية للتغيير الديمقراطي التي ترتبط عضوياً بالقيم الحداثية "العصية" على الاستنبات في الأرضية العربية الإسلامية. ليس هذا الرأي بالجديد، بل هو مألوف في الدراسات الغربية السيارة، بيد أن الكثيرين قد راجعوه مؤخراً بعد نجاح الثورات العربية. صحيح أن مسار التحول الديمقراطي ما زال في بدايته، ومؤشرات الخوف والشك عديدة، بيد أن الثورات العربية الأخيرة، قد نجحت بوضوح في تحقيق ثلاثة مكاسب تاريخية لا غبار عليها، تسمح بالرهان عليها في إنجاز التطلعات الباقية. وهذه المكاسب: إبداع آليات الاحتجاج السلمي الفعالة وقبول التضحيات المترتبة عليها، وتبني خطاب تنويري حداثي يكرس أولوية مقتضيات الحرية على محددات الهوية وخصوصيات الانتماء، والنزعة الانفتاحية على العالم بدل الانكفاء على الخصوصية الذاتية، التي طبعت ما سمي بالثورات الوطنية والقومية في العقود الأولى من منتصف القرن العشرين. وحتى في الساحات التي عرفت بطغيان المعادلة القبلية (كما هو شأن اليمن وليبيا)، برز خطاب وطني متماسك متشبث بالهوية السياسية الجامعة وبالأفق الديمقراطي مسلكاً أوحد للخروج من العهود الاستثنائية. ومن الواضح من رصد المشهد السياسي العربي الحالي أنه لا يمكن لأي قوة سياسية أو أيديولوجية بعينها أن تستأثر بالأمر والسلطة عبر القنوات المفتوحة للتغيير داخل الحقل التعددي المتولد عن انهيار النظم الاستبدادية، كما أن المؤسسة العسكرية توجد لأول مرة في تاريخ الجمهوريات العربية مرغمة على الخروج من الحلبة السياسية التي كانت تتحكم فيها. فما يخشى منه في الديمقراطيات الوليدة ليس عودة الديكتاتورية والاستبداد عبر أنظمة شعبوية ثورية (بحسب النموذج السوفييتي – الصيني)، وإنما الدخول في فترة اضطراب سياسي طويل ناتجة عن مصاعب الانتقال الديمقراطي وشدة تنوع وتفكك الحقل السياسي، مما عرفته كل الديمقراطيات الناشئة في أوروبا وأميركا الجنوبية. فمن البديهي أن مفهوم الثورة كتغيير جذري وإعادة بناء للإنسان والمجتمع لم يعد قائماً، بل يعود للأنساق الإيديولوجية المنحسرة. فالثورات العربية الجديدة هي أقرب لديناميكيات التحول الديمقراطي التي عرفتها مناطق شتى من العالم منذ سبعينيات القرن الماضي إلى انهيار جدار برلين وما تلاه من نتائج نوعية معروفة، ولا يمكن اختزالها في تلوينات أو شعارات إيديولوجية أو خيارات دينية أو ثقافية بعينها. وما تحدث عنه "فيرجسون" من فوارق حضارية جذرية بين السياقين الغربي والإسلامي تفنده الوقائع الموضوعية التي أبرزت للعيان زيف "أسطورة الاستثناء الإسلامي"، وأكدت مركزية وحضور قيم الحداثة والفردية والعقلنة في الحركات الاحتجاجية الراهنة دون إحساس بتصادمها مع المرجعيات العقدية والحضارية العميقة للأمة.