لا مجال للمؤامرة فيما يقع داخل الوطن العربي، فنظرية المؤامرة مكروهة ويعتقد البعض أنها بلهاء ولا يؤمن بها إلا المغفلون. في مُحاولة للهرب من هكذا توصيف واعتقاد نحن - حسب هذا المنطق - لا نؤمن بنظرية المؤامرة، فكل الأحداث التي وقعت (فجأة) من المحيط إلى الخليج منذ أوائل هذه السنة كانت بطريق الصدفة التي لعبت دوراً مع عوامل داخلية كثيرة، ليظهر بعدها هذا الوضع الثوري الانتفاضي الهياجي ... إلخ. لنؤمن فقط بهذه (الصدف) لننجو من نعتنا بأننا نعلق أخطاء القيادات في العالم العربي على نظرية المؤامرة، ونحن عندما نفعل هذا نبرر ونهرب من الوقائع والأسباب الحقيقية ... كما يقول معارضو المؤامرة. من الصدف العجيبة أن يحرق إنسان تونسي بسيط معتز برجولته نفسه في منتصف شهر ديسمبر عام 2010م، لتبدأ بعدها انتفاضات الشعب التونسي، ثم تقود الصدفة حرائق البيت التونسي الواحدة بعد الآخرى إلى إجبار الجيش التونسي الرئيس السابق (بن علي) لمغادرة البلاد، وتستمر الصدف إلى أن يتولى رئيس الوزراء في عهد الرئيس الهارب المسؤولية مع رئيس مجلس النواب الذي أصبح رئيساً مؤقتاً، وهما من شاركا الرئيس المخلوع مسؤولية الحكم وإصدار القرارات طوال سنوات عديدة! الصدفة وحدها - حتى ننجو من وصفنا بالبله والخنوع - صنعت أحداث مصر بعدما تبين أبيض تونس من أسودها بمدة أقصاها عشرة أيام، والصدفة وحدها هي التي جمعت شباب الفيسبوك في عيد الشرطة المصرية، والصدفة وحدها جعلت 20 مشاركاً يبدؤون المظاهرة من حي شعبي مصري لتنتهي في ميدان التحرير وقد وصلت أعدادها إلى 30 ألفاً، الصدفة وحدها جعلت أعلام وشعارات المظاهرة القاهرية تُرفع في ذات الوقت الذي تصرح فيه وزيرة الخارجية الأميركية في البحرين أنَّ على الزعماء العرب أن يسمعوا لشعوبهم وإلا أُسمِعوا هذا عنوةً وهم يغادرون! الصدفة وحدها هي التي جعلت تعاون شركة غوغل والتويتر والفيسبوك يحدث للمرة الأولى كملجأ لمن أوقفت هذه الخدمات على أجهزتهم الحاسوبية من قبل الدولة المصرية! الصدفة وحدها هي التي أتت بمُِسوق شركة غوغل في الشرق الأوسط إلى القاهرة قادماً من دبي حيث يعيش لسنوات مع زوجته الأميركية ليقود المظاهرات الافتراضية والواقعية بعد ذلك قبل أسبوعين فقط من رفع شعار الشعب يريد إسقاط النظام. الصدفة وحدها هي التي سمحت لمسوق شركة غوغل - عراب ثورة 25 يناير - بأن يفعل ما فعل دون أن تلفت الشركة العملاقة انتباهه إلى أن ما يفعله يخالف تعليمات الشركة عند توقيع العقد معها، والذي ينص على ألاَّ يمزج موظفوها بين العمل التجاري لديها والعمل السياسي المباشر، الصدفة وحدها هي التي جعلت أول أهداف ما بعد الانسحاب المذل والغريب والمفاجئ لقوات الشرطة المصرية من الشارع عصر يوم 25 يناير المحاكم وأقسام الشرطة وعنابر السجون. الصدفة وحدها هي التي عرَّفت (مجهولين) بزنازين المسجونين الخطيرين السياسيين من حماس وحزب الله ليطلق سراحهم فوراً ويصلوا إلى غزة وبيروت بعد 24 ساعة من فرارهم التي لعبت الصدفة الدور الوحيد فيه! الصدفة وحدها هي التي جعلت البيت الأبيض يخصص كل وقته واجتماعات مجلس الأمن القومي الأميركي للحدث المصري ولترداد كلمة (الآن) في وصف متى يخرج الرئيس المصري من الحكم؟ الصدفة وحدها هي التي جعلت شعارات (الموت لإسرائيل) و(أميركا المجرمة) لا ترفع، وهي شعارات رُفعت منذ الخمسينيات للقرن الميلادي الماضي من المتظاهرين المصريين وحتى 24 يناير، ليختفي كل ذلك ويشاهد بعد ذلك لافتات يكتب عليها كل شيء إلا ما يقلق بمعاهدة السلام مع إسرائيل ومساندة أميركا الدائمة للظلم الإسرائيلي. الصدفة وحدها هي التي جعلت وزيرة الخارجية الأميركية تعرف أن مصر هي أم الدنيا، بعد أن كانت والد العرب المريض، الصدفة وحدها هي التي جعلت مبلغ 90 مليون دولار تصرف من الخزينة الأميركية (كمساعدة) للاقتصاد المصري في هذه الأوقات العصيبة، وهو مبلغ يعادل ما تدفعه أميركا سنوياً لمنظمات حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني النشط في مصر! الصدفة وحدها هي التي جعلت الخطاب الأميركي مُتسقاً تماماً مع الخطاب الإقليمي المجاور للخليج العربي وذلك في الشأن العراقي والشأن البحريني؛ الصدفة وحدها هي التي جعلت جامعة الدول العربية وأمينها العتيد والمرشح للرئاسة المصرية في العهد الجديد يتحركون ضد ليبيا لأنها تقتل شعبها، بينما قتل الآلاف في دارفور وفي العراق وفي أماكن كثيرة من العالم العربي، دون أن تُعير الجامعة العربية وأمينها انتباهاً لهذه الخطايا الكبرى تجاه الشعوب، وتساند حقوق بني الإنسان الليبي... فقط. الصدفة وحدها هي التي جعلت الشأن الفلسطيني والتوسع الاستيطاني الإسرائيلي لا يأتي فقط في الإعلام العربي منذ بداية الثورات العربية قبل ثلاثة أشهر تقريباً وحتى الآن. الصدفة وحدها هي التي أوقفت نشاط منظمة القاعدة في كل العالم الإسلامي، بينما الإدارة الأميركية مشغولة بإدارة أزمات بلاد الفوضى الخلاقة؛ حتى في اليمن حيث موطن "القاعدة" القوي في بلاد الجزيرة العربية، أصيب - صدفة - الأصبع "القاعدي" الذي كان دوماً على الزناد بالارتخاء المفاجئ، في الوقت الذي لا ينام الخط الساخن بين البيت الأبيض والرئاسة اليمنية لإعطاء الإملاءات حول حقوق الإنسان ومشروعية الاعتصامات. الصدفة وحدها هي التي أشعلت هذه الأيام نيران الفتنة الطائفية في بعض الدول العربية، والفتنة الدينية في دول أخرى. الصدفة وحدها هي التي جعلت الشأن العربي يأخذ مساحات من الهم السياسي الدولي بدلاً من مناقشات البرنامج النووي لبعض الدول المارقة كما (كانت) تسميها الدول الغربية. الصدفة وحدها هي التي جعلت المال العربي المتراكم يهاجر للدول الغربية من بلاد العرب خوفاً من الثورات والهيجان الشعبي والمصادرات! الصدفة وحدها هي التي أنعشت الشركات العالمية المنتجة لأدوات فض المظاهرات والشغب. الصدفة وحدها هي التي جعلت حظر الطيران فوق ليبيا لا يتم إلا بمساعدة مالية ولوجستية عربية. الصدفة وحدها هي التي رفعت أسهم شركات البترول العالمية توافقاً مع اضطرابات العالم العربي الذي يكتنز نصف الاحتياطي النفطي العالمي. الصدفة وحدها هي التي جعلت الأمين العام للأمم المتحدة يشرب حليب السباع ويصرخ في زعماء عالمنا العربي هو والمنظمات التابعة له طالباً ألاَّ يزيلوا حتى حاجز طريق إقامة المتظاهرين، والصدفة المشابهة وحدها جعلت نفس الأمين ينام مبكراً وإسرائيل تفعل الأعاجيب قتلاً واستيطاناً وتهجيراً في الشعب الفلسطيني الأعزل. هي الصدف... والصدف وحدها هي التي شكلت الصورة العربية الراهنة، لا المؤامرة ولا حتى الحراك الشعبي المرافق!