يبدو أن البعض يعيش حالة فصام ظاهر وإنْ ادعى أنه لا يراه، ففي الوقت الذي يشارك فيه البعض في فعاليات ويتابع مسابقات إبداعية يخاف في الوقت ذاته من أفكار يقول إنها أفكار مخالفة لمجتمعه. وهنا تأتي لعبة الإقصاء لدرجة الإخفاء، وربما تطورت ووصلت إلى الإلغاء القسري متناسين أن الله لم يخلق الإنسان على شكل واحد أو عقل واحد أو ملة واحدة، هذا الاختلاف الذي خلق مع الإنسان هو بسنَّة كونية أشعلت جذوة الاختلاف لإثراء الحياة بكل تفاصيلها. التنوع فرصة للالتقاء بأطراف فكرية متعددة، لكن أيضاً هناك من يمارس ذات الإقصاء في قمة تناقضه عندما يسمح لنفسه بأن يتفهم كل الأجواء الفكرية الدينية من كافة الديانات ويبدي تسامحاً حتى مع المتطرفين. وجاء البعض لمن هم يعتبرون أصحاب فكر له تاريخه وأداؤه وقالوا لهم: كفى في التأكيد على أصالة الفكر الإقصائي، وعلى ضيق الأفق وعلى حقيقة دامغة بأن هناك أصحاب الكيل بمكيالين لا يعترفون أبداً بمنطق العدالة. الاستماع للجميع وفتح باب المشاركة، لا يعني البتة الموافقة أو الإجماع على أداء أي كان، ولكن رحابة الأفق الفكري تدرك أهمية الإصغاء لكل الأصوات دون الوقوع في شرك الانتقائية. فالصوت، الذي يعاكس ما يفتقده ذهب بصاحبه إلى إغلاق كل ما يمكن من الأبواب وبالتالي إخراسه وإلى الأبد. لماذا لا يحتمل البعض كل الأصوات؟ ولماذا لا يملك البعض رحابة في تفسير خطابات أي طرف في أداء أي فكر؟ فحتى على مستوى التعليم هناك من يخشى مغبة الانكفاء نحو الماضي في حين أن للتاريخ حكمته التي تعلم الحكيم ما يكفيه شر التجربة، فإذا لم يكن للشعوب تاريخها، فإنها فقدت بذلك مستقبلاً وتحول الحاضر إلى واقع هش طال من أي أضواء قادرة على المضي به نحو آفاق جديدة. لغة التجاهل والاتهام، هي ما أوقدت نيران الرفض والثورات، فلا أصعب من احتكار الصوت والأفكار ومصادرة الأحلام وفرض لون موحد للجميع دون الالتفات إلى أن الحياة لا تحتمل هذا اللون الواحد. السلوك المزدوج سيصل بأصحابه في نهاية المطاف إلى ازدواجية يصعب استمرارها إنْ لم يكن مستحيلاً، فالتناقض حالة لا يمكن التعايش معها. ولا يمكن الإمعان في تجاهل أصوات غير ما اعتدنا سماعه، فالقول الآخر على حق حتى يثبت عكس ذلك، وقواعد احترام فكر مضاد هو منطق متحفز يستدعي استدامة فكرية مميزة تؤسس لحصاره لها جذورها العميقة القائمة على استيعاب تطبيقه الإنسان. فلو فهمت المجتمعات العربية حقيقة أن الاختلاف هو منطق كوني لا سبيل للقضاء عليه لحقنّت الكثير من الدماء وحفظت الكثير من الممتلكات، ولصار العالم أكثر اطمئناناً، وأشد جلداً على مقارعة الآخر بالحجة والمنطق، فلا قوة ولا الإقصاء لهما مستقبل يعدُ بالانتصار.