من الكتب العربية التنبؤية المدهشة، التي صدرت في اللحظة التاريخية المناسبة، وكأن المؤلف قد قرأ الغيب، كتاب صدر عام 2010 عن "مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية" في أبوظبي، للدكتور أحمد منيسي، وحمل عنواناً صادق الدلالة وهو: "حركات التغيير الجديدة في الوطن العربي: دراسة للحالة المصرية"! فمن أين كان يعرف أن هذا هو مسار تحولات مصر؟ وأن هذه الحركات الجديدة، التي لم يسمع بها الكثيرون ولا توقعوا منها هذا الدور التاريخي، ستقود المشهد السياسي، وتكون على رأس حركات التغيير العربية؟ و"حركات التغيير الجديدة" التي يبحث المؤلف دورها، "منظمات أو تجمعات تتكون من تيارات، لا يشترط فيها وحدة الفكر أو الأيديولوجيا، تتفق فيما بينها على أجندة مرحلية، وينظم جهودها إطار تنظيمي بسيط مرن، وتسعى إلى إحداث تغيير شامل في الأوضاع من خلال الوسائل السلمية. وهي حركات لا تسعى للوصول إلى السلطة، بل إلى تغيير نمط علاقات القوة السائد الذي هو شرط التغيير". فأين هذه المنظمات والتجمعات عما عرفته الحياة العربية السياسية على مدى نحو قرن، وما خبرته من أحزاب قومية ويسارية ودينية وما شاب حياتها التنظيمية وتحركاتها من صراعات وصدامات! نحن إذن في عصر جديد حقاً، والعولمة وثوراتها العلمية والفكرية قد وصلت إلى الكثير من "موروثات" العرب! نشأت هذه الحركات في مواجهة الدولة نتيجة عجز الأنظمة عن أداء دورها، ونتيجة توسعها على حساب المجتمع المدني، وبخاصة أن هاتين الظاهرتين صاحبهما "تآكل دور الأحزاب السياسية كمنظمات للتعبئة والتمثيل الشعبي". تختلف حركات التغيير الجديدة عن الحركات الاحتجاجية وحركات المعارضة التقليدية. فحركات التغيير لها إطار تنظيمي أكثر وضوحاً، ولها برنامجها وخطابها الخاص بالتغيير. غير أن هذا لا يمنع بعض أشكال التداخل بينهما. هذه الحركات الجديدة تتميز بالتنوع الشديد، وبالدعوة إلى التغيير الشامل لا الجزئي، وبانتهاج العمل السياسي المباشر، وبعدم السعي للوصول إلى السلطة، وأخيراً في كون حركات التغيير الجديدة غير مشروعة قانونياً بعكس معظم حركات المعارضة التقليدية. وُلدت حركات التغيير الجديدة من رحم الحراك السياسي في العالم العربي بعد عام 2000، وبخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة. وذلك لأسباب داخلية وخارجية. ففي الداخل تردت الأوضاع السياسية العربية، وعجز النظام العربي عن مواجهة الأوضاع المستجدة محلياً وعالمياً، وتباطؤ معدلات الإصلاح، وفشل وعود التغيير، وتأزم الأحزاب والقوى المعارضة. وأسهمت، إلى جانب هذا الواقع السياسي، عوامل اقتصادية في إيجاد ظاهرة الحراك السياسي، لعلّ أبرزها تراجع مؤشرات النمو وتفاقم البطالة. ففي الجزائر بلغ المعدل 38 في المئة عام 2002، ونحو 20 في المئة في المغرب وأكثر من 10 في المئة في مصر مع نهاية 2003.. إن صدقت ودقّت الإحصائيات! وأظهرت تقارير التنمية لعام 2005 أن النسبة المئوية للسكان تحت خط الفقر ممن يعيشون على دولارين في اليوم قد بلغت 44 في المئة في مصر ما بين 1990 - 2003 و45 في المئة في اليمن. ومن الأسباب الاجتماعية للحراك التطور الكبير في مجال التعليم، وارتفاع معدل التحضر، وتنامي دور المرأة وتحسن الخدمات الصحية. ولم ترتفع نسب التعليم في العالم العربي فحسب، بل تفاقم تناقض مستجدات التعليم مع الواقع، وبخاصة وأن قطاعات متعاظمة من الأجيال العربية التي درست وتعلمت في البلدان المتقدمة والديمقراطية، تعمق لديها شعور الاغتراب والإحساس باليأس من الأوضاع السائدة والفساد الواسع الانتشار. ويظهر الباحث عمق التحولات العربية في مختلف المجالات كالتعليم مثلاً. فقد ارتفعت نسبة المتعلمين في سوريا عام 2003 إلى 83 في المئة بعد أن كانت 65 في المئة عام 1990، وفي سلطنة عُمان بلغت أكثر من 74 في المئة بعد أن كانت 55 في المئة، وفي تونس 74 في المئة بعد أن كانت 59 في المئة، وفي ليبيا 89 في المئة مقابل 68 في المئة عام 1990. وشهدت المنطقة العربية ارتفاعاً في مدى مشاركة المرأة في النشاط الاقتصادي مع عام 2003، وكانت الجمعيات المدنية التي تكونت في العقدين الماضيين، والتي قارب عددها الربع مليون، في قسمها الأكبر، جمعيات نسائية. وفي عام 2002 تأسست منظمة المرأة العربية بإشراف جامعة الدول العربية، كما ارتفعت نسبة مشاركة النساء العربيات في الحياة البرلمانية، وتجاوزت 11 في المئة في العديد من البلدان مع عام 2003. وكانت الطفرة الكبيرة في المجال الإعلامي من أهم العوامل الداخلية المؤثرة في التوجهات السياسية. ولم تكن الطفرة زيادة كمية فحسب في أعداد الصحف والفضائيات وخدمة الإنترنت، بل وكذلك "حدوث كثير من التطورات على الصعيد المعنوي، الذي يتصل بمضمون الأداء الإعلامي بالأساس، وهو الأداء الذي يلعب دوراً بارزاً في تطوير الوعي العربي". وينوه الباحث كذلك بتزايد عدد الفضائيات العربية، والتي ربما بلغ عددها المئات اليوم، وهكذا، "أصبح لدى معظم التيارات السياسية وسائلها الإعلامية، وطرحت هذه المنابر الجديدة للنقاش مجموعة من القضايا، لم يكن مسموحاً بطرحها". يرى د. منيسي أن ثمة "أسباباً خارجية" للحراك السياسي العربي والتي أوجدت جماعات التغيير، إلى جانب الأسباب الداخلية. فقد تعرضت النظم السياسية العربية لضغوط خارجية كبيرة في مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر، إذ حمّل الغرب هذه النظم مسؤولية تفريخ الإرهابيين بسبب انغلاقها السياسي، وطالبت النظم باعتماد أنظمة ديمقراطية والقيام بالإصلاح. غير أن هذه المطالب الإصلاحية ظلّت محدودة التأثير في الشارع العربي، بل تعرضت لانتقادات حادة في الأوساط العربية، لإغفالها دور الاحتلال الإسرائيلي في "تقويض الحرية والتنمية في الوطن العربي"، ولأنها صممت دون استشارة المنطقة العربية، ومن ثم فهي لم تعط العرب أي دور جوهري في تحديد مسارهم المستقبلي. وتحليل د. منيسي لتعثر مبادرات الغرب صحيح في مجمله في اعتقادي، باستثناء القول بأن إسرائيل هي المسؤولة عن "تقويض الحرية والتنمية في الوطن العربي". تجلّت مظاهر الحراك السياسي كذلك من خلال طرح مبادرات إصلاح رسمية مثل "بيان مسيرة التطوير والتحديث"، الذي صدر عن القمة العربية، تونس مايو 2004، ودعا إلى "تعميق أسس الديمقراطية والشورى وتوسيع المشاركة في المجال السياسي". ومن مظاهره كذلك "إعلان صنعاء"، الذي تمخض عن المؤتمر الإقليمي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومن المؤشرات المهمة كذلك لهذا الحراك السياسي، يقول د. منيسي، ارتفاع مساحة النقد العام لسلبيات المجتمع العربي وبصورة غير مسبوقة، في التجمعات السياسية والمنتديات الاجتماعية والفكرية، وفي الصحف حتى الرسمية منها. وكذا، ظهور توجهات معارضة في قطاعات مجتمعية لم يُعرف عنها تاريخياً التحرك السياسي، مثل أساتذة الجامعة والقضاة، بل وتبني قطاعات داخل النخبة الحاكمة "برامج إصلاحية" ولو جزئية. ولكن بم طالب هؤلاء جميعاً، وعلام أجمعوا؟ تفاعلات الحراك السياسي في المنطقة العربية جمعت بين ثلاثة توجهات، المطالبة ببناء "مجتمع المواطنة"، الذي لا يميز بين مواطن وآخر وتأسيس دولة الديمقراطية والحريات، والمطالبة بعصرنة الدولة العربية وتحديث بنيتها الجامدة، والمطالبة ثالثاً بتفعيل إمكانات وقدرات الواقع العربي. حركات التغيير الجديدة، يضيف الباحث، يتقاسمها تياران رئيسيان. التيار الحداثي المدني بمرجعيات أيديولوجية شتى مع الإجماع على التغير الديمقراطي. ويضم اليسار الماركسي والاتجاه القومي والاتجاه الإسلامي المستنير والتيار الوطني الليبرالي، وأبرز نموذج لهذا التيار حركة "كفاية" المصرية. والتيار الثاني ديني تقليدي، يضم تيارات ذات مرجعية إسلامية أبرزها "الإخوان المسلمين". ولكن ألم يقل الباحث أن حركات التجديد "لا تنتظم حول توجهات فكرية معينة" بعكس حركات المعارضة التقليدية؟