سار الباحث الجيواستراتيجي الفرنسي إيف لاكوست على خُطى مواطنه المؤرِّخ المعروف فرنال بروديل. فكما كتب بروديل عن البحر المتوسط في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، قام لاكوست في عام 2006 بإصدار كتابه "الجغرافية السياسية للمتوسط". لكن بينما كان همّ بروديل دراسة العلائق عبر المتوسط في عصر الإمبراطوريات، العثمانية والفرنسية والنمساوية؛ فإنّ اهتمام لاكوست انصبَّ على دراسة المتغيرات عبر المتوسط في النصف الثاني من القرن العشرين. ومن الطبيعي وهو الفرنسي أن تحظى الجزائر لديه باهتمام خاص. بيد أنّ اللافت هو الخطاطات التي يُعيد رسمها للمناطق والعلائق في الحرب الباردة ومرحلة التحرر من الاستعمار. فقد تميزت تلك المرحلة بتقسيم العالم إلى ثلاثة عوالم: الأول والثاني والثالث، وقد وقعنا نحن في العالم الثالث. ثم ظهرت خطاطةُ الشمال -الجنوب. إنما اللافت أنّ لاكوست ما عاد يرى صدقية لتقسيم العوالم، بينما يرى أنّ التقسيم إلى شمال وجنوب، ما عاد ينطبق إلا على جنوب المتوسط (من مصر إلى الجزائر!). والطريف أن لاكوست يعتبر منطقة شرق المتوسط (التي يضع فيها تركيا واستطراداً إيران)، منطقة رديفة لمنطقة جنوب المتوسط من حيث أهميتها بالنسبة لأوروبا، بينما يحكم مقاربته لبقية بلدان شرق المتوسط (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين) النزاع العربي الإسرائيلي، ولا يفهم العراق إلا في سياق علاقاته بإيران ومن بعد بتركيا حتى بعد الاحتلال الأميركي. هناك إذن تصور جديد لدى فريق من الباحثين الاستراتيجيين الأوروبيين يعطي أولوية في الاهتمام لدول جنوب المتوسط بسبب الجوار الجغرافي، ومشكلات التنمية والهجرة، بينما يعتبر المناطق الأخرى بالشرق الأوسط، مشتركة بين أوروبا والعالم في المصالح والجيواستراتيجيا أيضاً. أما المسألة الأخرى فهي اعتبار إيران إلى جانب تركيا، جزءاً من العالم المتوسطي أو الاهتمامات المتوسطية بسبب سياساتهما في هذه المنطقة، وكذلك الأمر مع العراق. ويضطرب الأمر على لاكوست، بعد الانتهاء من التوصيف. فماذا يعني أن بلدان جنوب المتوسط لها علاقات معقدة بأوروبا، فهل هذا التعقيد سببه كثافة الهجرة وصيرورة الإسلام الديانة الثانية بالقارة الأوروبية، أم أن التعقيد يعود إلى عجز دول الاتحاد الأوروبي عن الاتفاق على وضع استراتيجية تجاه تلك الدول، تصون المصالح، وتطور العلاقات للوصول إلى شراكة متميزة. وبذلك فإن لاكوست يقول بالحوار، ولا يرى فائدة أو صحة لمقولة صراع الحضارات، ويرحب بالمسلمين البالغ عددهم بفرنسا وحدها أكثر من ستة ملايين، لكنه يعترف بأن مسألة الاندماج تبقى صعبة، ليس من ناحية صعود تيارات التدين والخصوصية في أوساط المسلمين المغتربين وحسب؛ بل وفي أوساط اليمين الأوروبي أيضاً. إنما لنعد إلى منطقة جنوب المتوسط، وإلى الخليج، وبلدان النزاع العربي الإسرائيلي. فلاكوست يتوقع متاعب على أوروبا في هذه المنطقة؛ وذلك لسببين: فشل الدول في هذه المنطقة، بسبب عدم قيام السلطات بمهامها ووظائفها، وعدم تعاون الأوروبيين مع حكومات دول الجنوب هذا لمواجهة مشكلات النمو، والثورة الديموغرافية. وإذا لم تكن المشكلة الديموغرافية بارزة في ليبيا وموريتانيا وتونس؛ فالبارز في هذه الدول توقف الحياة السياسية، وتوقف التداول على السلطة؛ حيث ازدادت المشكلات تعقيداً رغم إعادة الهيكلة في الاقتصاد، والاستقرار الطويل، والتفاهمات الثنائية مع الدول الأوروبية المتوسطية. ومع أن لاكوست يعتبر منطقة الهلال الخصيب، منطقة تحكم الحركة فيها الصراعات بشأن فلسطين؛ فإنه يضيف لذلك بالنسبة لسوريا والأردن ثلاثة أمور أخرى: مسألة الحكم الصالح غير المتوافر، والثورة الديموغرافية، وصعود الحركات الأصولية المتشددة. فهناك إذن أربعة أسباب للاضطراب، يتقدمها النزاع على فلسطين. ويذكر أن حكم البعث في سوريا والعراق كان يستخدم القضية الفلسطينية لصالح الاستمرار في السلطة. ثم دخل صدام حسين في حروب للهيمنة، وصار العراق في النهاية عالقاً بين إيران وتركيا حتى بعد الغزو الأميركي. وهو لا يرى مصلحة للأكراد في الانفصال، إنما لن يأتي الاضطراب من ناحية الأكراد فقط؛ بل ومن ناحية إعادة تكوين السلطة بالداخل بعد الانكفاء الأميركي المتوقع، والتجاذب بين إيران وتركيا على البلاد. وتوقع لاكوست متاعب لمنطقة الخليج من ثلاث نواح: اليمن بسبب الضعف الاقتصادي والثورة الديموغرافية والتوق إلى ثروات النفط بجوارهم، وطبيعة الظروف السائدة في إيران وعلاقتها بمحيطها، وصعود الأصوليات التي تريد إقامة حكم إسلامي ومصارعة النفوذ الغربي. نظر لاكوست إذن في كتابه "الجغرافية السياسية للمتوسط" إلى أولويات أوروبا المتوسطية في منطقة الشرق الأوسط، فحدد رأس الأولويات في قطاع جنوب المتوسط، واعتبر شرق المتوسط منطقة رديفة أو ثانية، بينما اعتبر الخليج من الناحية الجيوسياسية ثالثاً في اهتمامات أوروبا. وعندما تحدث عن المنطقة الرديفة أدخل مع تركيا إيران في العوامل الجيوسياسية، أما لناحية الاستقرار، فاعتبر الصراع على فلسطين عاملاً أول في الاضطراب؛ بينما اعتبر أن منطقة الخليج لا تواجه تحديات مقلقة، باستثناء التدخلات الإقليمية، والوضع الذي تعانيه اليمن. ومع أنّ هذا التحليل أو التوصيف، ينطلق من المصالح والاهتمامات الأوروبية؛ فإنه يظهر الدخول الإقليمي القوي على الجغرافية السياسية للشرق الأوسط ولعدة جهات: التدخل في العراق، والتدخل من خلال الجماعات الطائفية في لبنان ومنطقة الخليج، ودعم حركات الإسلام السياسي العربية في الكفاح ضد إسرائيل، وفي المعارضات الداخلية لأنظمة الحكم. ويتنبه الرجل إلى التأثيرات القوية للثورة الديمقراطية على مصائر منطقة جنوب المتوسط (من مصر إلى الجزائر)، لكنه يعود فيستنتج أن الانفجار المتوقع سيكون انفجاراً أصولياً. وهو أمر ما زال يؤكده القذافي، كما أكده من قبل مبارك وبن علي. وهذا عائد إلى مقولة وممارسات الحرب على الإرهاب، ومظاهر "الصحوة" التي تشهدها الجاليات الإسلامية بأوروبا، وتقارير الأجهزة الأمنية. وقد كان الأمر في متناول اليد لو أراد المحللون رؤيته. فالفئات الشابة من المتعلمين وأنصاف المتعلمين إنما تلتمس فرص العمل، وتتابع التوقعات الزاهية في وسائل الاتصال الحديثة، فتصاب بالإحباط في بلدانها بسبب عدم توافر الحكم الصالح والانفتاح والتداول على السلطة؛ فتستميتُ على الهجرة إلى أوروبا. وشأن العرب في ذلك مثل شأن الأفارقة. ومع الوقت، وعبر حوالي العقدين، نشأ وعي بضرورة التصدي لهذه المشكلات من خلال التغيير في بلدانهم الأصلية، بعد أن لم تعد أوروبا قادرة أو قابلة لموجات الهجرة والاستيطان. وعندما تبلور هذا الوعي بدأت الثورات في بلدان جنوب المتوسط، وامتدت إلى بقاع تُعاني من المشكلات نفسها، إضافة لعوامل أخرى متقاطعة مع ما ذكرنا وأهمها التدخلات الإقليمية والدولية. ما عاد من الممكن بعد التطورات الدموية وغير الدموية في ليبيا واليمن وغيرهما، العودة إلى النمط الذي كان سائداً في التحليل، والمستند إلى ثنائية: الحكم -الأصولية الثائرة. فقد سقطت هذه الثنائية في تونس، وسنشاهد سقوطها في مصر قريباً، وفي أماكن أخرى ما تحركت بعد. إنما المهم الآن بدء التفكير بعمليات تكوين السلطة من جهة، واستعادة الوعي والعمل بالدولة والمؤسسات وعيش الناس وأمنهم بالسرعة الممكنة والمقبولة. لكن هل تساعد أوروبا في ذلك، وهل تساعد الولايات المتحدة؟ سيظهر ذلك كله في الأسابيع والشهور المقبلة.