وهب الله عز وجل الإنسان عقلًا يفكر به ويزن وفقه الأمور، ويميز من خلاله الصالح من الطالح والخير من الشر والرديء من الجيد. وهذا العقل أشبه ما يكون بجهاز كمبيوتر معقد الآليات يخزن فيه صاحبه ملايين الملفات حول ما شاهده وخبره طوال حياته. وكما في جهاز الكمبيوتر، فإن من نعم الله على عباده أن وهبهم نعمة النسيان التي بإمكانهم من خلالها إزالة ومحو الملفات المخزنة داخل عقولهم إذا شاؤوا. غير أن الكثيرين من البشر، لا يسيئون فقط استخدام عقولهم، وإنما أيضاً يمتنعون عن استحضار ما تختزنه من تجارب عاصروها من تلك التي يجب أن تكون مرشداً لهم في اتخاذ قراراتهم، كي لا يكرروا الأخطاء. ولعل أقرب مثال على الشق الأخير، هو ما حدث في لبنان. فاللبنانيون الذين خبروا أهوال الانقسام والاضطراب وغياب القانون ومظاهر السلم الأهلي أثناء حقبة المد القومي في عام 1958، سرعان ما غيبوا عقولهم مرة أخرى في عام 1975 ، حينما انقادوا إلى أحزاب ورموز سياسية غوغائية ذات برامج ومرئيات متطرفة، أو ارتضوا أن يكونوا وقوداً لمخططات خارجية، فاحتكموا إلى العنف والسلاح وتكوين الميليشيات لفرض إرادات فئوية ومذهبية وأيديولوجية. وبطبيعة الحال، كانت النتيجة هي انزلاق الجميع إلى حرب أهلية طائفية، دمرت زهرة البلاد العربية وأكثرها انفتاحاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً، وقضت على سمعتها التجارية والسياحية والفنية، ناهيك عن تسببها في مقتل أكثر من 300 ألف قتيل، وأكثر من نصف مليون جريح ومشرد ومعاق، علاوة على خسائر مادية وصلت إلى مليارات الدولارات. وهكذا غابت أو غيبت، على مدى 17 عاماً، بلاد كانت بمثابة ملجأ للمنفيين والهاربين من الأنظمة القمعية في ديارهم، ومقصداً للباحثين عن الاصطياف والاسترخاء، وبيئة نموذجية للمفكرين والمبدعين، وحاضنة لكل جديد ومبتكر وغريب. هذا المثال الذي يتذكر الكثيرون تفاصيله ويومياته، وأهواله ومصائبه، يجب أن يستحضره اليوم كل عاقل وراشد وغيور في البحرين، التي تكاد أن تنزلق نحو الهاوية وفق النموذج اللبناني، كنتيجة لتغييب العقل، والركون إلى المزايدة والتطرف والتشدد، والاستهتار بنعمة السلم الأهلي، عند عدد غير قليل ممن يتزعمون جمعيات (أحزاب) البلاد السياسية. نعرف أن يضحي البعض بمستقبل بلاده ويبيعها بأبخس الأثمان لارتباطه بأجندات خارجية، أو لوجود أحقاد دفينة مترسبة في داخله ضد النظام القائم. ونعرف أن يزايد البعض انطلاقا من ضعف قوته السياسية في الشارع، أو انطلاقا من الزمن الرديء الذي جعله في لمحة عين أميناً عاماً لحزب سياسي لا يزيد عدد أعضائه عن خمسة أشخاص مغمورين في أفضل التقديرات. لكن المؤسف هو أن تشارك جماعات سياسية لها حضور معتبر في أوساط النخبة المتعلمة، وتاريخ سياسي ناصع على مر العقود الخمسة الماضية، في تمزيق لحمة البلاد الوطنية، وفي تخريب إنجازاتها الحضارية، وفي تدمير سلمها الأهلي، وفي صب الزيت على نار الفتنة، من خلال اصطفافها مع الموتورين والمزايدين والمتطرفين بوضع تواقيعها على البيانات السياسية الصادرة عن هؤلاء، بما فيها البيانات التي تضع مقدماً شروطاً للدخول في الحوار الوطني الجامع الذي دعا إليه ولي العهد بسقف غير محدود، والبيانات الصادرة عن جمعية المعلمين التي أقدمت على جريمة نكراء في حق فلذات أكبادنا بدعوتها إلى تجميد المسيرة التربوية حتى إشعار آخر، والبيانات الصادرة عن جمعية الأطباء التي تخلت عن واجبها الإنساني الشريف، وانصرفت إلى الاعتصامات ورفع الشعارات السياسية والفئوية، والبيانات الصادرة عن اتحاد نقابات العمال الداعية إلى الإضراب العام وشل الحركة الاقتصادية في البلاد. ونختتم بسؤال الجمعيات السياسية الشرعية وقادتها وأمنائها العامين، هل من يمتلك ذرة عقل منكم، يفعل ما فعلتموه ببلادكم من تمزيق نسيجها الاجتماعي، و"طأفنة" مؤسساتها، وقطع سبل التواصل ما بين مناطقها، وتحريض صغارها وشبابها ضد بعضهم البعض من جهة، وضد المقيمين من الجنسيات الأجنبية من جهة أخرى؟ وهل من يدعي أقل القليل من الرشد والحب والولاء لترابه يلقي البيانات النارية ويساعد في التحريض والتجييش والاعتصام وقطع الطرق، دون أدنى عبرة وعظة مما حدث في البلاد الأخرى التي انزلقت إلى الحروب الأهلية وذاقت مرارتها وأهوالها؟ وهل من يمتلك ذرة غيرة على وطنه وأهله ومجتمعه يتحول إلى مجرد تابع لجماعات لها أجندات خفية وبائسة، دون أي اعتبار للمسيرة الناصعة لجمعيته الوطنية الأم، أو لاستقلالية برامج الأخيرة وأهدافها؟ وأخيرا فهل من يعرف أقل القليل من أبجديات العمل السياسي، يرفض التجاوب مع فرصة ذهبية جاءته على طبق من ذهب للتعامل مع كافة مظالمه ومطالبه المتراكمة، ونعني بتلك الفرصة دعوة ولي العهد البحريني للحوار الوطني غير المشروط بين كافة مكونات الوطن، معطوفة على تنويه سموه بأن كل المطالب يمكن وضعها على الطاولة ومناقشتها، فضلًا عن اعتراف سموه صراحة بأن بعض الملفات تركت طويلاً دون علاج، مما أدى إلى تراكم الأخطاء والمظالم، وجاء اليوم وقت علاجها بصورة سليمة وحاسمة. ما حدث في البحرين في الآونة الأخيرة من أحداث مؤسفة عنيفة وغير مسبوقة في تاريخها، بل غريبة على طبيعة شعبها المسالم المتسامح، يتحمل مسؤوليته الأولى قادة جمعياتها السياسية، الذين أثبتوا أنهم ليسوا أهلاً للعمل السياسي، وأثبتوا للجميع أنهم ممن تنقصهم الحكمة والعقل الرزين، بل ويعانون من قصور شديد في فهم السياسة، التي هي في أبسط معانيها "فن الممكن"، وليس "فن المزايدة" أو"فن التشدد" أو "فن التخندق وراء المطالب الطوباوية". ولسنا نبالغ لو قلنا أنهم هم المسؤولون أيضاً عن كل التداعيات المحتملة لفرض قانون "السلامة الوطنية"، الذي أعلنه الملك – وقت كتابة هذه السطور - بموجب الصلاحيات الدستورية المخولة لجلالته، لأنهم هم من أوصلوا البلاد إلى اتخاذ تلك الخطوات، بما فيها طلب إرسال قوات "درع الجزيرة" للحفاظ على المنشآت العامة والحيوية.