السابع عشر من مارس لا يوافق ذكرى عيد القديس "سانت باتريك" فحسب، وإنما يأتي هذا العام في الذكرى المئة وخمسين لتأسيس إيطاليا الحديثة، وهي ذكرى قد لا ينتبه إليها الكثير من الأميركيين. لكن هذه الذكرى جديرة بالاهتمام في الحقيقة. وأقول لهؤلاء الذين لا يصدقون أن مصر وغيرها من دول الشرق الأوسط يمكن أن تتحول إلى ديمقراطيات مزدهرة، إن عليهم أن يأخذوا نفَساً عميقاً، ويفكروا جيداً في تاريخ إيطاليا. حتى منتصف القرن التاسع عشر، لم تكن إيطاليا قد أصبحت بعد دولة -أمة حيث كان الإيطاليون مقسمين بين النمسا ومملكة البربون في نابولي والفاتيكان ومجموعة من الدول -المدن. لكن الديمقراطية الإيطالية في القرن التاسع عشر، لم تكن بالديمقراطية الجيدة. فلم تكن هناك شخصيات مثل توماس جيفرسون، أو جورج واشنطن -الآباء المؤسسون العظام للولايات المتحدة الأميركية- في المدن الإيطالية مثل روما ونابولي... تماماً كما أنهم لا يوجدون في مدن كالقاهرة، والإسكندرية اليوم. لكن كانت هناك تعددية سياسية، ومتطرفون دينيون، واشتراكيون، ومشروعات تجارية كبيرة، وفوضويون، وعسكريون، ومزارعون، ومثقفون. كان هؤلاء جميعاً موجودين في المدن الإيطالية في ذلك الوقت، تماماً مثلما أنهم موجودون اليوم في مصر. وخلال السنوات الأولى من عمر إيطاليا الحديثة كانت أسهم العسكريين في صعود، وهو ما مكنهم من السعي لزيادة المستعمرات الإيطالية في الخارج -مثل ليبيا- وتوسيع حدود الدولة الإيطالية. وتغير هذا الوضع خلال العقدين الأوليين من القرن العشرين، حيث سيطر الفاشيون ذوو القمصان السوداء بزعامة موسوليني على الأوضاع. وكان العهد الفاشي في إيطاليا في فترة ما بين الحربين العالميتين، فصلاً كلاسيكياً في التاريخ المتعرج لبناء ديمقراطيات مستقرة. فخلال هذا العهد نهض موسوليني من إخفاقات الديمقراطية الضعيفة، وحقق صعوداً لافتاً قبل أن ينتهي به الحال مشنوقاً عام 1945 على أيدي شعبه حين كانت الحرب العالمية الثانية تقترب من نهايتها. وبعد الحرب العالمية الثانية، وبمعاونة فعالة من جانب الأميركيين، تمكنت إيطاليا من إعادة وضع ديمقراطيتها على المسار السليم، لكنها -رغم ذلك- لم تكن جيدة بالقدر المأمول. فانتخابات 1946، جاءت إلى الحكم بحكومة ائتلافيه، بين الديمقراطيين المسيحيين المدعومين من قبل الفاتيكان، والشيوعيين المدعومين من السوفييت والاشتراكيين. وتحت ضغط من الأميركيين تم طرد الشيوعيين والاشتراكيين من الحكومة في منتصف عام 1947، وأصبحت انتخابات العام التالي نقطة فاصلة يتقرر بعدها ما إذا كانت إيطاليا ستظل متحالفة مع الغرب، أم أن الشيوعيين سيكسبون الانتخابات ويحصلون على الفرصة لإقامة نظام حكم دكتاتوري. ويمكن القول إن خوف أميركا من معادلة "رجل واحد، صوت واحد، مرة واحدة" في إيطاليا في ذلك الشتاء من عام 1948، يعادل خوفها من وجود الشيء ذاته في مصر في شتاء عامنا هذا. كان رد الولايات المتحدة على هذه الحالة، هو إطلاق يد "سي. آي. ايه" والديمقراطيين المسيحيين، والأحزاب الأخرى المناوئة للشيوعيين ومساعدتهم على الفوز في الانتخابات. وسواء أكان هذا التدخل حاسماً أم لا، فالشيء المؤكد هو أن نتيجة تلك الانتخابات كانت حاسمة حيث حصل الديمقراطيون المسيحيون على 48 في المئة من الأصوات (نتيجة لم يحققوها قبل ذلك ولا بعده) في حين لم ينل تحالف الشيوعيين والاشتراكيين سوى 31 في المئة من الأصوات. وخلال العقود الأربعة التالية، سيطر الديمقراطيون المسيحيون، أصدقاء أميركا، على السلطة، وإن كانوا قد اعتادوا تغيير رؤساء الوزراء كل عام تقريباً. وحتى سقوط الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينيات القرن الماضي، كانت الأولوية الأولى لأميركا في إيطاليا هي إبعاد اليسار عن الحكومة الإيطالية، وهو ما نجحت فيه. ومع ذلك نمت الديمقراطية الإيطالية وعاشت من خلال الانتخابات الحقيقية، والقضاء المستقل، وحرية الرأي، كما نما اقتصادها ليصبح في وقت من الأوقات رابع أكبر اقتصاد في العالم، وازدهرت فنونها، وقدمت مخرجين سينمائيين عظاماً مثل فيليني، وازدهرت صناعاتها وقدمت ماركات سيارات مشهورة مثل "فيراري"، كما قدمت ماركات ملابس ذات شهرة عالمية مثل "فيرساتشي". وتحولت إيطاليا في نهاية المطاف لتصبح ركيزة أساسية من ركائز الناتو والاتحاد الأوروبي. والسؤال هنا هو: ما الذي يعنيه كل ذلك لسياسة الولايات المتحدة تجاه مصر وغيرها من الدول في الشرق الأوسط؟ إنه يعني استغلال الفرصة المتاحة أمام العرب لبناء ديمقراطيات مستقرة، ومساعدتهم على تحقيق ذلك، مع إدراك أنه ستكون هناك خطوات للأمام وأخرى للخلف، وتقديم الدعم المادي، وتخفيف عبء الديون على تلك الدول، والاستفادة من الفرص التجارية معها، وتقديم الضمانات الأمنية الكافية لها، مع الربط بين كل ذلك وبين التزام تلك الدول بتعزيز المؤسسات الديمقراطيات. لا يعني هذا أن أميركا سوف تتدخل في الانتخابات المصرية، كما تدخلت في انتخابات إيطاليا عام 1948، لأن الولايات المتحدة بعد مضي ما يزيد عن شهر على التخلي عن مساعدتها لمبارك، لا تمتلك من المصداقية في مصر ما كانت تمتلكه في إيطاليا عام 1948 بعد أن نجحت في تحريرها من الحكم النازي. ومع ذلك، يمكن للولايات المتحدة أن تكون إيجابية ومبادرة، بطرق تتناسب مع الظروف الخاصة في المنطقة. لقد كانت القيادة الأميركية، بالتعاون مع حلفائها، مهمة للغاية لعملية تحول إيطاليا إلى دولة ديمقراطية حديثة ومستقرة... وهذه القيادة قادرة الآن على مساعدة مصر على أن تصبح نفس الشيء. جيم روسابيب السفير الأميركي الأسبق لدى رومانيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"