الخصائص الراديكالية لظهور الحراك الاجتماعي العنيف الواسع النطاق في عدد من البلاد العربية، ينبئ بإمكانية حدوث تحولات جذرية في المنطقة. ورغم أن مظهر ما يحدث من حراك ذي طبيعة عفوية وعشوائية فإن ما يحدث سيجعل علماء السياسة والاجتماع السياسي العرب وغيرهم من المهتمين بشؤون العالم العربي، بالإضافة إلى كل من أراد أن يدلي بدلوه في الموضوع -البعض منهم بيأس والبعض الآخر بابتهاج- بأن الأوضاع القائمة ستتغير. وبالتأكيد أن تعريف أو تفسير ما يحدث سيراوح وفقاً لطروحات كل فرد معني بالأمر على حدة. لكن دعونا نتساءل سوياً: ما معنى كل ذلك؟ ولماذا يحدث أصلاً بهذه الطريقة العنيفة؟ في تقديري أن البلاد العربية المعنية وربما العالم العربي برمته، لا يحتاج إلى الإصلاح فقط، بل هو يواجه واحدة من أهم وأعقد المشاكل التي عرفتها البشرية منذ بدء الخليقة، وهي وجود العنف الكامن في وجدان الشعوب عندما تتعرض للظلم والقهر وسرقة مواردها ومقدراتها الاقتصادية. هذه الصورة للحراك الاجتماعي العنيف، التي ربما تكون مؤقتة، خلقت أمام أصحاب الحركات العنيفة أنفسهم، وأمام أولئك الذين يراقبونهم بالدراسة، شعوراً بوصول الأمور إلى نهاياتها المؤلمة. وربما أكون مخطئاً في طرحي هذا، لكن مجتمعاتنا العربية لا تزال غير متكيفة تماماً مع مسار آلة الحضارة الحديثة، أو هي غير قادرة على ذلك، وينتج عن ذلك أن قام من يكتبون عن الإنسان العربي وقدرته على إحداث التغيير، بضخ صور عن أن عالم عربي جديد سيظهر، أحياناً مزدهر ومتطور يمكنه إحداث التنمية الشاملة المستدامة، وأحياناً كئيب ليس بوسعه تحقيق أي من الطموحات التي تسعى إليها الشعوب العربية، ويستطيع المتلقي اختيار ما يناسبه في مسيرته نحو المستقبل. ويرتبط ذلك أن العالم العربي الذي سيظهر سيكون متصفاً إما بمشاركة جماعية مثمرة أو بفوضى عامة تتقدم فيها سلطة الحكومة وتغيب الدولة، وسيتم حكم البلاد العربية إما بوعي جماعي أو من قبل أقليات قمعية جديدة. مجمل القول هو إن علماء السياسة والاجتماع السياسي يعلمون القليل حول كيفية إمكانية رد بعض نظم الحكم العربية على الحراك الاجتماعي العنيف في داخل بلدانها، وعادة ما تفترض الأدبيات التنظيرية حول القلاقل المدنية بأن العنف أمر شاذ وليس له معنى وتلقائي واستثنائي، واستخدامه دائماً ما يؤدي إلى نتائج كارثية على كافة الأطراف الداخلة في المعادلة. لكن هذا الطرح يبدو لي بأنه خطأ جسيم، فجزئياً، النزاع السياسي يجب النظر إليه على أنه مدخلات ومخرجات (في نفس الوقت) للعملية السياسية في المجتمع، فالنزاع السياسي كسياسة لا ينتهي عندما يتوقف العنف، فتلك تكون نقطة البداية فقط. لذلك، يمكن القول بأن علماء السياسة والاجتماع السياسي المهتمين بشؤون العالم العربي، عرب وغيرهم، يلامون على عدم قدرتهم على تطوير الأدوات والمنهجيات الضرورية لاستكشاف التداعيات النظامية والمنهجية للقلاقل الداخلية في البلاد العربية ضمن منظور مقارن يمكِّن الدارسين من رصد ما يقع من حالات عدم استقرار والتنبؤ بها قبل وقوعها، أو على الأقل قبل أن تصل إلى مراحل كارثية كما هو الحال في ليبيا اليوم. إن أعمالاً من هذا القبيل ضرورية جداً وعاجلة لرصد وقع الشارع العربي وما قد يحدثه من تغيير في البلاد العربية.