لا يكفي فقط التنبيه على تحديات الثورة بل من الضرورة أيضاً التحذير من مخاطر الثورة المضادة. التحديات هي العقبات أو المخاطر التي تواجه الثورة من الأمام لحظة انطلاقها في حين أن الثورة المضادة هي اغتيال للثورة والتفاف حولها من الخلف بعد انتصارها الأول ونجاحها المدوي الذي انشغل به الجميع لتحليل أسبابه، وعناصر قوته. تنبع الثورة المضادة من ثنايا الثورة. وتتمخض من أتونها. هي ثورة في الشكل وليست في المضمون، في الآليات وليس في الأهداف، في المطالب وليس في النوايا. وهي ليست غريبة على الثورة. إنما تتبع قانون الثورات. فقد تمخضت عن الثورات الفرنسية والروسية ثورات مضادة باسم الثورة المستمرة، وتحت شعار "ثورة حتى النصر" من أجل إجهاض الثورة من داخلها بعد أن فشلت أجهزة الأمن في القضاء عليها من خارجها وفي مواجهتها. فتصفية الثورة تتم إما بمحاصرتها من الخارج أو بإجهاضها من الداخل. لقد أُخذ النظام السابق على غرة. وظن أنه مستتب، فبيده الأمن والشرطة والحزب والسلطة والمال. والمعارضة بالكلام من خلال الصحف مجرد تسلية لا يأبه بها النظام. وفجأة وعلى غير موعد وقعت الواقعة. وظن الأمن أنه يستطيع بالعصي والهراوات الكهربائية وبالرصاص المطاطي بل وحتى الرصاص الحي والقناصة من فوق أسطح المنازل والغاز المسيل للدموع ومدافع المياه السيطرة على المتظاهرين مثل كل مرة. وصُعق بالصمود وتحول مئات الآلاف إلى ملايين في الشوارع وفي الميدان ليل نهار. وفي لحظة فارقة انضم الجيش للثوار، ورجحت الكفة، من الغضب إلى الصمود إلى التحدي إلى النصر. ويرتفع سقف مطالب الثوار في كل مرة يخطئ فيها النظام بإقالة الحكومة وتعيين حكومة جديدة، وتعيين نائب للرئيس، وخطب ثلاث تزيد من الثورة اشتعالًا حتى تحقق النصر. وسقط رأس النظام، وبقي الجسد. وفي نشوة النصر والاستمرار في تحقيق مطالب الثورة بدأ الجسد يتحرك من جديد. وأفاق النظام القديم من الصدمة. فمن كانت بيده السلطة والمال والأمن لا ينهار بسهولة. وبدأت فلول النظام السابق في تجميع قواها، الحزب، ورجال الأعمال، وضباط الداخلية، ومباحث أمن الدولة، وكل المستفيدين من النظام السابق. ووضعوا خطة لتصفية الثورة واستعادة السلطة، تقوم على رفع شعارات الثورة من أجل إجهاضها، ورفع سقف المطالب من أجل استحالة تحقيقها. منها "ثورة حتى النصر" أي الثورة الدائمة التي لا تنتهي ولا تتوقف. ومنها "الشعب يريد تصفية النظام" وهو أحد مطالب الثوار بعد إسقاط رأس النظام. فالمطالب يتم تحقيقها جملة واحدة. والثورة تعم المؤسسات الحزبية والإعلامية والسياسية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فلم يعد الصبر مقبولًا بعد ثلاثين عاماً ولو ليوم واحد. المطلوب هدم القديم بصرف النظر عن بناء الجديد. فلم يعد أحد يتحمل بقاء القديم. التدرج تنازل، والصبر خيانة، وطلب فسحة من الوقت إطفاء لنار الثورة. لا تحتاج الثورة إلى دولة. بل تخلق دولتها من داخلها في لحظات إبداعية فارقة. وهنا يقع الخلاف بين فصائل الثوار، بين الرومانسيين والعقلاء، بين الحالمين واليقظين، بين المثاليين والواقعيين. ويتسرب "البلطجية" داخل الثوار، يؤيدون فريقاً ضد فريق. لقد انقسمت الثورة على نفسها من داخلها. وأصبح عدوها من نفسها. ثم تتدخل الشرطة من جديد ضد الجميع حماية للأمن والنظام. فإن لم تستطع نظراً للصورة المشوهة لها في ذهن الناس، تدخل الجيش الذي ناصر الثورة في البداية حماية للبلاد كما حماها من قبل من رأس النظام. وفي هذا المد والجذر بين الثوار يتعطل الإنتاج، وتتوقف المصانع، وتغلق المدارس والجامعات، وتتوقف حركة المواصلات، وتنهب الممتلكات الخاصة مهما حاول الثوار تنظيف الشوارع، وتكوين لجان شعبية للدفاع عن المنازل والمؤسسات. يضيع الأمن والاستقرار. ويتوق الناس تدريجيّاً إليهما حتى لا تتعطل المصالح. ثم يأتي وقت يضجرون فيه من الثورة والثوار. وقد ينقلبون عليهما. فكثير من العمال يعملون بالأجر اليومي، وبلا عمل لا أجر. وتتعطل الجامعات والعام الدراسي على وشك الانتهاء. وكل شيء له حد في الزمان حتى الثورة. فيصاب الثوار بالملل لأن الثورة لم تتحول إلى دولة، وهدم القديم لم يتبعه بناء الجديد، والحب الرومانسي لم ينته إلى زواج عائلي. وقد تساعد على ذلك طبيعة النفس البشرية، والتحول من الثقة بالنفس إلى الغرور، ومن النصر المرحلي إلى نصر مستمر، ومن نجاح في خطوة إلى نجاحات في كل الخطوات. يرفض الثوار الجزء من أجل المطالبة بالكل، والمكاسب الوقتية إلى المكاسب الدائمة، ومن المرحلة الانتقالية للتحول من الاستبداد إلى الحرية، ومن التسلط إلى الديمقراطية إلى المرحلة الدائمة حيث يسود الدستور الدائم، والمجلس النيابي المنتخب، وحرية الإعلام. وفي هذه الحمأة الثورية وعدم تحولها إلى نظام قد يصعد فصيل ثوري أكثر تنظيماً من الفصائل الأخرى، ويقدم نفسه على أنه التنظيم الوحيد الموجود. وقد ساهم بنجاح في انطلاق الثورة واستمرارها. والآن آن الأوان لحصد نتائجها. وقد تتحالف معه عناصر من النظام السابق بعد أن كان عدوها للصعود عليه والعودة إلى السلطة ثم لفظه وتوجيه الاتهامات الشائعة له بالعنف والإرهاب. وقد تتآلف بعض التنظيمات الحزبية القديمة من أجل الحصول على السلطة فهي أولى كي تخلف النظام القديم لما لديها من خبرات سياسية سابقة وتجارب حزبية تجعلها قادرة على مخاطبة الجماهير. والنقاء الثوري مؤقت. قد يقل تدريجيّاً كلما تقدم الزمن وخيّم السكون والهدوء على المجتمعات، وانتظم الناس في تدبير شؤون حياتهم. تراهن الثورة المضادة على إمكانية عودة النظام القديم وجماعات المصالح، وعودة الشعب إلى طبيعته الراضية المستكينة، واستعداد بعض النخب للتعاون مع أي نظام جديد لعقلنته وتبريره وإعطاء شرعيته. وعلى هذا النحو تتحول الثورة إلى انتفاضة، والانتفاضة إلى هبّة، والهبّة إلى تمرد، والتمرد إلى خروج على القانون والنظام. وتنتهي الدورة الثورية الصغرى التي تتم في نفس الجيل. وتصبح الثورة استثناء، والاستقرار هو الأساس. تتحول الثورة إلى تاريخ، تتعلم منه الشعوب. لذلك كتب الفلاسفة "الثورة والدولة". وكتب آخرون "الثورة المغدورة". وتشمت الثورة المضادة في الثورة. ويعرف الناس أن القديم هو الأبقى، وأن الجديد هش، في ثقافة ما زال يغلب عليها القديم. وقد تعتبر الجديد كفراً وإلحاداً. القديم هو "الفرقة الناجية" والجديد بكل أنواعه هي "الفرق الضالة". وفي المثل الشعبي "تيتي تيتي، زي ما رحتي زي ما جيتي".