إنه ثمرة بحث وثائقي وعلاقات شخصية ومراقبة مباشرة للصفوة العراقية، طوال أكثر من نصف قرن، وبشكل رئيسي للزعامات السياسية منها... ذلك ما يقوله الدكتور خالد التميمي عن كتابه "الصفوة العراقية... بين النجاح والفشل"، الذي نعرضه هنا، والذي يكاد يمثل موسوعة حول الأحداث التاريخية التي مرت على العراق وعلى النخبة العراقية خلال سني القرن العشرين، مع تركيز خاص على المرحلة بين الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914 وسقوط الملكية عام 1958. وكما يوضح المؤلف، فقد واجهت النخبةُ العراقيةُ في بداية القرن الماضي عالمًا مضطرباً بسبب التنافس الدولي بين الأمم الأوروبية الصناعية، لاسيما على منطقة الشرق الأوسط وقد اتضح حينئذ غناها بالنفط الذي أصبح أهم مادة استراتيجية تتنافس عليها الاقتصادات الصناعية. وفي هذا الخضم قامت بريطانيا التي كانت مهمومة باستكمال قبضتها على منابع البترول العربية، وبتأمين جميع خطوط المواصلات الإمبراطورية إلى مستعمراتها في الهند وبقية مناطق نفوذها الأخرى، بإنزال قواتها قبالة الفاو يوم 6 نوفمبر 1914، ليبدأ احتلالها للعراق. ورغم الخطاب المطمئن الذي بثه البريطانيون بين السكان، فقد واجهته النخبة الدينية بشك كبير وبادرت للاضطلاع بدورها في مواجهة المحتل الأجنبي، حيث دعت للجهاد وحمل السلاح، وكان لفتاواها أثر واضح على العشائر وسكان المدن. لكن مع تراجع مد المقاومة، بسبب اتساع الفجوة في التسلح والتدريب والتنظيم، وتحت تأثير ما وفّرته الإدارة البريطانية من أمن ورخاء نسبيين، وجد العراقيون مزايا جيدة لتلك الإدارة مقارنة مع إدارة الحكم العثماني. وفي هذا السياق الجديد يتطرق المؤلف إلى الدور الذي لعبته النخبة العراقية، فيلاحظ أنه كان لمتعلميها وأعيانها ووجهائها، درجةٌ عالية من الوعي والشعور بالمسؤولية الوطنية، إلى حد أدهش المحتلين. وكما يتناول المؤلف دور الصفوة في ثورة العشرين، يتعرض أيضاً لدورها في اختيار ملك للعراق. فبعد أن أدركت بريطانيا أنه يصعب عليها استئلاف نخبة العراق وحكمه بشكل مباشر، ارتأت تنصيب أحد أنجال الشريف حسين بن علي (شريف مكة) ملكاً على البلاد، فالتقت عليه إرادة أهلها من سنة وشيعة. ويذكر المؤلف أن الصفوة العراقية كانت قد انقسمت قبل ذلك حول شعار الاستقلال التام بين تيارين؛ أحدهما يفضل الإبقاء على الإدارة البريطانية وثانيهما يطالب بإدارة عراقية وبالتقدم السريع نحو الاستقلال. التيار الأول مثلته "جماعة العهد"، والتي رغم قبولها مبدأ الاستقلال، فقد رأته رومانسياً بالنسبة لواقع المجتمع العراقي. أما التيار الثاني فمثله "حزب حراس الاستقلال". ويرى المؤلف في هذا الاستقطاب أنه كان يمثل اختلافاً واقعياً في مستويات الصفوة العراقية، اجتماعياً واقتصادياً، لأسباب تاريخية وجغرافية. فقيادات "العهديين" كانت في غالبيتها ذات مؤهلات علمية ومهنية عالية، وكان بعضها من كبار الضباط الذين درسوا في كبريات الجامعات والمعاهد الأوروبية والتركية، وخدموا في مختلف أرجاء الدولة العثمانية، وعاشوا واقع الحياة العسكرية والمدنية، واكتسبوا خبرات إدارية واسعة، وجميعهم من المسلمين السنة ومن أسر بغدادية أصيلة. أما "حراس الاستقلال" فكانوا من صفوة المسلمين الشيعة في بغداد، وإن لم ينالوا من التعليم سوى الدراسة في الكتاتيب والحوزات، فقد كانوا مؤيدين من قبل المراجع الدينية، وكان أغلبهم يعملون في التجارة والزراعة. ورغم الظروف الصعبة التي كانت تحيط بالمجتمع العراقي، فقد استطاعت صفوته مواجهة الظروف الجديدة وقيادته بوعي وحكمة وإرادة، فحققت "إنجازات عظيمة في خدمة المجتمع"، كان أكثرها وضوحاً هو إنشاء مملكة عراقية موحدة ككيان مستقل بحدوده الدولية المعروفة حالياً على خريطة العالم. ويتوقف المؤلف عند ثلاثة عوامل يرى أنها أثرت بشكل مباشر في إنشاء العراق الحديث؛ أولها قيام الصفوة العراقية بمسؤولياتها الوطنية، وثانيها الإنجازات البريطانية في العراق أثناء الاحتلال، أما الثالث فيتمثل في ثورة العشرين. وكخلاصة غير مخلة، يرى الكتاب -خلال منطوقه الصريح وكناياته الثاوية بين الأسطر- أن أسوأ حقبتين في تاريخ النخبة العراقية الحديثة، هما الحقبة العثمانية التي يتهمها بتهميش المسلمين الشيعة، والحقبة ما بعد الملكية كمرحلة ضائعة من تاريخ العراق الحديث. وإذ يخصص حيزاً كبيراً من كتابه لهذه الحقبة الأخيرة، فهو يرى أنها شهدت تراجعاً لدور الصفوة في التأثير على قيادة الدولة والمجتمع، بل شهدت سعياً ممنهجاً لاجتثاثها كلياً من قبل الأنظمة الاستبدادية المتعاقبة، وذلك عبر حملات واسعة من الاضطهاد والإذلال والمحاكمات الظالمة، تشرد على إثرها خيرة زعامات الصفوة العراقية خارج وطنهم. كما شهدت الفترة بين عامي 1968 و1979 موجة اغتيالات استهدفت بعض شخصيات الصفوة الاجتماعية والسياسية. ومن قراءته لتاريخ الصفوة العراقية، وما يتصل بها من أحداث خلال العقود الأخيرة، يخلص المؤلف إلى أن القائد الذي يمسك بزمام السلطة، وهو أهم عينة للصفوة، يستطيع أخذها وأخذ البلاد من ورائها، نحو المصير الذي يرسمه لهما. الكتاب: الصفوة العراقية... بين النجاح والفشل المؤلف: د. خالد التميمي الناشر: دار كنوز المعرفة تاريخ النشر: 2011