تراجع دور مصر ونفوذها الشرق أوسطيين كثيراً خلال عهد مبارك الذي امتد طويلاً. وقبل ذلك كانت مصر قد عرفت بدورها الديناميكي والحيوي كدولة قائدة للقومية العربية. بيد أن علاقاتها مع جاراتها من دول العالم الإسلامي تراجعت وتقلصت في ذات الوقت الذي صعد فيه دور دول منطقة الخليج، لاسيما السعودية، بينما صعدت دول إقليمية أخرى. وعلى النقيض من هذا التراجع الذي شهده الدور الإقليمي المصري، ظلت القاهرة مركزاً ثقافياً سياسياً للعالم العربي منذ الإطاحة بعرش الملك فاروق عام 1952، وتأسيس جمهورية مصر العربية في العام التالي، وما أعقب ذلك من صعود لعبد الناصر إلى سدة الحكم عام 1954، وصولاً إلى معاهدة السلام التي أبرمت مع إسرائيل عام 1979. وكان عبد الناصر يتمتع بكاريزما قيادية عالية، وقد تمكن بواسطة استخدامه إذاعة القاهرة من بث رسائل سياسية تدعو إلى القومية العربية ومناهضة الاستعمار عبر العالم العربي بكامله، وصولاً إلى عمق القارة الإفريقية، وكان أحد مؤسسي حركة عدم الانحياز عام 1961، والتي ضمت جوزيف تيتو، الرئيس اليوغوسلافي حينها، والقائد الهندي جواهرلال نهرو، والزعيم الغاني كوامي نيكروما، والرئيس الإندونيسي الأسبق سوهارتو. وطوال هذه الفترة ظل النزاع العربي الإسرائيلي حدثاً رئيسياً مسيطراً في العالم العربي. وكانت حرب عام 1967 نكسة حقيقية للعرب، لاسيما لمصر. ورغم نجاة الزعيم سياسياً من تداعيات وتأثيرات تلك النكسة، فقد لقي حتفه إثر إصابته بنوبة قلبية عام 1970. أما خلفه السادات فقد اتخذ خطوتين في غاية الأهمية؛ أولاهما طرده جميع الخبراء السوفييت الذين كان قد استعان بهم عبد الناصر، ليحدث بذلك تحولاً كاملاً في علاقات مصر نحو الولايات المتحدة الأميركية بدلاً من اتجاهها شرقاً نحو المعسكر الاشتراكي. أما الخطوة الثانية فتتلخص في شنه حرب أكتوبر 1973 ضد إسرائيل بهدف استعادة صحراء سيناء التي احتلتها الدولة العبرية. وتمكن السادات من تحقيق أهدافه السياسية متمثلة في وضع حد لاعتداءات متبادلة بين بلاده وإسرائيل، إلا أن تحقيق تلك الأهداف أدى إلى عزلة القاهرة عن العالم العربي والإسلامي بسبب إبرامها معاهدة كامب ديفيد للسلام مع تل آبيب عام 1979. ومنذ ذلك الوقت بدأت مصر رحلة عدها التنازلي الإقليمي عقب طردها من عضوية جامعة الدول العربية بسبب المعاهدة المذكورة. وحين تولى مبارك زمام القيادة عقب اغتيال السادات، واصل ذات النهج بتطبيقه لاتفاق السلام المعزول مع إسرائيل، بينما عزز التزام بلاده بوقوفها مع الولايات المتحدة في معظم قضايا السياسات الخارجية. وفي المقابل حصلت مصر على مساعدات أميركية سخية للغاية سنوياً، في كلا المجالين الاقتصادي والعسكري. وعقب الثورة الشعبية التي أطاحت بالنظام السابق، فإن الوقت لا يزال مبكراً جداً للتكهن بطبيعة الحكومة المقبلة التي ستتولى القيادة في القاهرة، أو التنبؤ بما يمكن أن تكون عليه سياستها الخارجية. وبما أن من المرجح أن يستحوذ الجيش على نصيب لا يستهان به من السلطة هناك، فإن ذلك يزيد من احتمالات المحافظة على حسن العلاقات العسكرية بين الجيشين المصري والأميركي. كما يتوقع أن تتعرض القاهرة لضغوط كبيرة من أميركا والاتحاد الأوروبي بهدف الحفاظ على معاهدة السلام المبرمة مع إسرائيل. أما في القضايا المحددة ذات الصلة بقطاع غزة، ورغبة الفلسطينيين في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي والإعلان عن دولتهم الحرة المستقلة، فسوف يكون بوسع القاهرة اتخاذ مواقف أكثر حزماً والتزاماً بهذه القضايا. وفيما لو برزت حكومة أكثر استقراراً وديمقراطية نسبياً في القاهرة، فمن شأن ذلك أن يساعد على عودة وتنامي النفوذ الإقليمي المصري مجدداً. وإذا ما تحققت هذه العودة، فإنها لا شك سوف ترغم إسرائيل، ليس على إعادة النظر في سياساتها الحالية نحو الفلسطينيين فحسب، وإنما ستجبر هذه العودة كلاً من تركيا وإيران على وضع اعتبار للاعب إقليمي ثقيل الوزن، قد عاد بقوة إلى حلبة التنافس الإقليمي. بيد أن كل ما قيل أعلاه ليس سوى تكهنات نظرية، إذ ربما يكون ما يسفر عنه الواقع المصري فيما بعد مبارك، مختلفاً جداً وليس بكل هذا القدر من التفاؤل. فقد كان الحرمان الاقتصادي والبطالة في مقدمة الأجندة التي طالب بها آلاف المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع للتعبير عن حنقهم وتظلماتهم من الظروف المعيشية المزرية التي تعيشها أغلبية المصريين. وبالنظر إلى الأضرار البالغة التي وقعت على أهم القطاعات الاقتصادية، لاسيما قطاع السياحة، فإنه لا مناص من أن تواجه أي قيادة مصرية جديدة، ذات التحديات المعيشية الاقتصادية التي دفعت بالمتظاهرين والمحتجين إلى الشوارع. وغني عن القول إنه ليس ثمة حلول سريعة سحرية للمشاكل الاقتصادية التي تواجهها مصر. غير أن من شأن الحزم في مكافحة الفساد واتخاذ إجراءات عملية في هذا الاتجاه أن يقنعا الشارع المصري بأن ثمة تغييرات حقيقية جارية على الأرض. أما أسوأ السيناريوهات الممكنة التي يمكن أن تشهدها مصر، فهي أن تعجز عن توحيد إرادتها نحو الإصلاح والتغيير، وأن تتفاقم أزماتها الداخلية، ما يدفع الجماعات الأصولية الراديكالية وغيرها من الجماعات المشابهة إلى القفز على السلطة. وفيما لو تحقق هذا السيناريو، فإنه لا ينفي عودة مصر مجدداً إلى "حوش" السياسة الشرق أوسطية، غير أنها ستفعل ذلك وهي تعاني الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي بدلاً من أن تؤدي الدور القيادي الإقليمي المرجو منها. وبهذا فإن الحالة المصرية ليست استثناءً من المعضلة الرئيسية التي تواجهها كافة النظم السياسية التي تعقب مرحلة الثورة. وهنا يلح السؤال: إلى أي مدى يمكن أن يكون الاستقرار أكثر أهمية من الحرية السياسية، فيما لو كانت هذه الأخيرة رديفاً للفوضى؟ تلك هي المعضلة التي لا تزال تعجز واشنطن وأصدقاؤها الشرق أوسطيون عن حلها على النحو المطلوب. غير أن ما يحدث في مصر، سوف يكون مؤشراً ذا أهمية بالغة في رسم مستقبل الشرق الأوسط بأسره.