في القرن الماضي طرح مشروع غربي عن سيناريو "الشرق الأوسط الجديد أو الكبير"، وتبنى هذا الأمر بيريز رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية، وكان الهدف الرئيسي منه هو إدماج "إسرائيل" كجزء صلب في هذه المنطقة الحساسة من العالم. المشروع السابق لم يكتب له النجاح لأن الرأي العام العربي لم يبلع الطعم الإسرائيلي الذي تم الترويج له على أساس أنها واحة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، ولو تم لها ذلك لأعلنت في اليوم التالي أنها سيدة الشرق الأوسط بلا منازع. ومرت العقود ودخلت إسرائيل مع الفلسطينيين في تجاذبات السلام حرباً وشبه هدنة حتى ساعة اندلاع الثورات العربية في أكثر من دولة، ولم تقلق إسرائيل إلا على معاهدة السلام المصرية والخوف على مصيرها الذي لم يطل كثيراً بعد إعلان العسكر في مصر عن عدم المساس بها مهما كانت الظروف الحالية صعبة على البلع لكافة المراقبين لما يحصل في العالم العربي، ولم يصل أحد حتى الآن إلى القول الفصل ولا من قبل العقول الاستخبارية في أميركا وأوروبا وإسرائيل وهي التي تزعم دائماً أنها لا تخفى عنها شاردة ولا واردة من أحوال العالم المتقلب وإن لم تكن هي أصل تدبيرها كما يظن بعض أصحاب الفكر التآمري. يبدو أن جديد الشرق الأوسط يصنعه الواقع ولو كان متلبساً بالمرارات وملطخاً بالدماء والتضحيات، وهو ما قد يفوق فعل الخيال، أو كما قال بوش الأب مرة بأن الواقع المشاهد والمصنوع حالاً أمام العيان قد يفوق الخيال بدرجات صارخة. فالواقعية هنا لا تعني الرضا بالظلم والإذلال والمهانة، فهذا لم يحصل في أشد فترات التاريخ السحيق فرعنة واستبداداً، وذاك يومَ أن لم يكن بالإمكان أفضل مما كان دون أن يعلم به أحد، أما الآن فإن الرضيع في عصرنا تمر عليه صور ومشاهد تعجِّل من رشده وشيبه. فأي مقارنة بين الشعوب يجب ألا تتجاهل العوامل الأساسية التي أوصلت الأمور إلى هذا الوضع الجديد والمفاجئ في العالم العربي، مع أن الأسباب العامة كانت معروفة منذ عقود إلا أن الشرارة التي اندلعت لم تصل إلى بصيرة المراقب الخبير إلا بعد اشتعالها وإحراقها لكثير من نظريات السياسة الواقعية الحالمة. إننا أمام وضع جديد بكل تفاصيله اليومية وهي التي بدأت تخط ملامح القادم الغامض والمقلق للعالم العربي قاطبة، فإذا لم يسعَ العقلاء وأهل الرشد في قلب هذه الثورات التغييرية وبصفة جذرية للتدخل الحليم والحكيم في آن واحد، فإن حالة اللااستقرار واللاأمن أشد خطورة مقارنة بالحالات السابقة من عمر المجتمعات الثائرة. والراغبون في الوقوف أمام هذه التطورات المتلاحقة خيارات أخرى متاحة في البدء بتبني مشاريع لإرساء دعائم المؤسسات المدنية التي تعيد عقارب الساعة إلى أوقاتها الصحيحة، فإذا كان الزمن العام يمضي إلى الأمام دائماً، فليس من المنطق ولا من العقل الوقوف أمامه وبناء متاريس وحواجز لمنع فعله في أي مجتمع، ومن يقوم بذلك فإن المصير والنتيجة لا تحتاج إلى تحليل خبراء السياسة الذين أخفقوا في تشخيص ما حدث في العالم العربي منذ أيام قلائل وحتى من استدرك منهم هذا الخطل وقع في مطبات لم يكد يخرج منها إلا معطوباً أو جريحاً في فكره ورأيه.