عندما خاطب سيف الإسلام القذافي الشعب الليبي في أول ظهور له بعد نشوب ثورة 17 فبراير قائلاً: "يا إخوان، نحن قبائل وعشائر وسنحتكم جميعاً للسلاح"، كانت رسالته هي أن ليبيا تختلف عن مصر وتونس وأن الإصرار على إسقاط النظام فيها يعني حرباً داخلية قد يطول أمدها. والفرق كبير فعلاً بين ثورة 17 فبراير وثورتي 14 يناير و25 يناير بسبب اختلاف البناء الاجتماعي التقليدي في ليبيا عنه في كل من مصر وتونس اللتين عرفتا الدولة الحديثة في القرن التاسع عشر قبل غيرهما من البلاد العربية. ولذلك يبدو المجتمع فيهما أكثر حداثة مقارنة بليبيا. لكن الفرق لا يقتصر على ذلك. ففي مقابل الطابع المركزي للدولة في كل من مصر وتونس، لم تكن ليبيا كياناً واحداً حتى عام 1911 حين جمع الاستعمار الإيطالي ثلاثة أقاليم عثمانية هي برقة وطرابلس وفزاَّن. وعندما استقلت ليبيا أُقيم فيها نظام ملكي فيدرالي عام 1951. ورغم أن ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 غيَّرت هذا النظام وألغت الفيدرالية، فقد حدث ذلك قسراً وبأساليب قمعية من أعلى دون مشاركة شعبية حقيقية وتفاعل مجتمعي حر. لذا ظلت هناك حساسيات مكتومة، وخصوصاً بين الشرق والغرب (بنغازي وطرابلس) ظهر شيء منها في الأسابيع الأخيرة رغم أن الشوق إلى الحرية والخلاص يجمع غالبية الليبيين في مختلف مناطقهم. وقد تجسد اختلاف الحالة الليبية عن الحالتين التونسية والمصرية في مسار الصراع ضد نظام الحكم رغم أن ما حدث على حدود ليبيا الغربية والشرقية كان له أثره فيها. تمركزت ثورة 17 فبراير في المدن الشرقية، وليس في العاصمة التي كانت هي مركز ثورة 25 يناير ونقطة انطلاقها. ورغم أن ثورة 14 يناير لم تبدأ في العاصمة التونسية، بل في الداخل، فهي لم تلبث أن تمركزت فيها بعد نحو أسبوعين. فقد ظلت السلطة الليبية محتفظة بسيطرتها على طرابلس التي يعيش فيها نحو 40 في المائة من السكان، ومعظم المدن الغربية، بينما التزمت أكثرية القبائل ذات النفوذ القوى في الجنوب موقفاً أقرب إلى الحياد. لذلك أخذ الصراع بين سلطة القذافي والثائرين عليها صورة الكر والفر سعياً للسيطرة على عدد من المدن ذات الأهمية الاستراتيجية، خصوصاً في المنطقة بين ميناء رأس لانوف النفطي شرقاً ومدينة الزاوية التي تبعد نحو 50 كيلو متراً عن طرابلس غرباً. وهكذا تحولت الثورة في ليبيا، بخلاف ما حدث في تونس ومصر، إلى حرب داخلية مسلحة بعد أن تمكن الثوار من الاستيلاء على كميات من الأسلحة والذخائر وانضمت إليهم بعض وحدات الجيش النظامي في المناطق الشرقية. غير أن هذا الجيش ليس كمثله في تونس ومصر. لذلك بدا دوره محدوداً للغاية بخلاف جارتي ليبيا اللتين لعب الجيش فيهما دوراً محورياً، سواء عندما التزم الحياد في البداية أو حين وضع مصلحة الدولة فوق الأشخاص في النهاية وتبنى مطالب الثورة. فقد اتجه نظام الحكم في ليبيا إلى تهميش الجيش خوفاً من أن ينقلب عليه، ولجأ إلى تدعيم الكتائب الأمنية الموالية له والتي كان عددها عشية الثورة 12 كتيبة مسماة بأسماء أبناء العقيد القذافي ورفاق المجاهد الليبي عمر المختار. وتتفوق هذه الكتائب عدداً وعتاداً على الجيش الذي بدأ تهميشه عقب الانشقاق الكبير في مجلس قيادة الثورة عام 1975 (انشق ستة من أعضائه وبقي أربعة فقط مع القذافي). لكن عملية تهميش الجيش تسارعت منذ كشف تمرد في داخله وإعدام 22 ضابطاً وسجن مئات آخرين عام 1977. فقد أسس نظام القذافي وقتها ما أطلق عليه "الجيش الشعبي"، المكون من كتائب أمنية تعمل بطريقة المليشيات المسلحة التي لا عقيدة عسكرية لديها، وتدين بالولاء التام لرأس السلطة. ولذلك لم يكن انضمام بعض قوات الجيش إلى الثوار في كثير من المناطق التي سيطروا عليها حاسماً، رغم أن هذه القوات دعمت قدرتهم على مواجهة هجمات الكتائب الأمنية الساعية لاستعادة المناطق التي فقدت السلطة السيطرة عليها. كما اعتمد نظام القذافي على اللجان الثورية الموالية له، والتي يقدر مجموع المنتمين إليها بحوالي عشرين ألف مقاتل. وهذا فرق آخر بين الحالة الليبية والحالتين المصرية والتونسية اللتين لم يعتمد النظام في أي منهما على أجهزة أو مجموعات غير رسمية. وبخلاف تونس ومصر، اللتين ظلت الثورة فيهما بلا قيادة من داخلها إلى أن تحقق هدفها الأساسي وهو تنحي الرئيس، بادر الثوار الليبيون بتشكيل قيادة تتحدث باسمهم عقب سيطرتهم على المناطق الشرقية. فقد تم تأسيس مجلس وطني انتقالي برئاسة وزير العدل مصطفي عبد الجليل، ثم أُعلن هذا المجلس "ممثلاً شرعياً لليبيين في مختلف المناطق". ورغم تعدد الفروق مع تونس ومصر، فقد اكتسبت الحالة الليبية تفردها من التكوين العشائري للمجتمع وهامشية دور الجيش النظامي. فكان نجاح القذافي في تأمين ولاء قبيلته (القذاذفة) وتفوق كتائبه الأمنية على الجيش المهمَّش هما سر صمود نظامه بعد أن فقد القسم الشرقي من البلاد ثم استعادته زمام المبادرة وتحوله من الدفاع إلى الهجوم. وأنتج اختلاف الحالة الليبية على هذا النحو تدويلاً لم يحدث مثله في كل من تونس ومصر. فلم يتجاوز الموقف الدولي في هاتين الحالتين إعلان هذه الدولة الكبرى أو تلك موقفاً كلامياً أو آخر، بخلاف الحالة الليبية التي امتزجت الثورة فيها بحرب داخلية غير متكافئة. وأدى إفراط سلطة القذافي في استخدام القوة، واستغلال سيطرتها على الجو، إلى طرح قضية التدخل الدولي بدءاً بقرار مجلس الأمن 1970 في 26 فبراير الذي تضمن إحالة أحداث ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية، وحظر بيع الأسلحة إلى إليها، وتجميد الأرصدة المالية الخاصة بالقذافي وأبنائه وحلقته الضيقة. غير أن الانتقال من التدويل السياسي إلى التدويل العسكري بدا صعباً في ضوء المخاوف من قدرة القذافي على استدرار تعاطف داخلي أو عربي وإسلامي. فالغضب المتراكم ضد سياسات الولايات المتحدة وأوروبا يحول دون تفهم مبدأ "المسؤولية الدولية عن توفير الحماية للسكان المدنيين"، وخصوصاً حين يُستخدم من أجل التدخل العسكري، حتى فيما يتعلق بإجراءات محدودة مثل فرض حظر جوي لمنع استخدام الطائرات الحربية في صراع داخلي. ولذلك جاء قرار المجلس الوزاري العربي الطارئ الذي دعا مجلس الأمن إلى فرض حظر جوي على الطيران العسكري الليبي، محاولة لإزالة الالتباس في هذا الشأن. وهكذا يبدو مصير الثورة الليبية، بعد شهر على نشوبها، متوقفاً على موقف المجتمع الدولي الذي لم يكن له أي دور في تونس ومصر.