أهمّ ما تسجّله المسيرات التي انطلقت في الضفة الغربية وقطاع غزة يوم الثلاثاء الفائت، الموافق 15 مارس، هو أنّ الطريق الثالث الفلسطيني بات يتجسّد فعلياً على الأرض، على نحو غير مسبوق، ودون إطار فصائلي أو تنظيمي محدد. وحتى الساعات التي سبقت التحرك، كان المستهدف هو القيام بتحرك شبابي تلتف حوله قطاعات شعبية واسعة، تدعو الفصيلين المتصارعين، "فتح" و"حماس"، للتفاهم والمصالحة، مع ميل تيار واضح داخل المسيرات إلى الدعوة لوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، ووقف مسيرة المفاوضات. بعد انتهاء التحرك، أصبح المشهد، أنّ هبة شبابية شعبية حدثت، وأنّه أصبح للشارع الفلسطيني صوت جديد، قادر على الحشد والنزول للشارع، وتراجعت الفصائل خطوة إضافية، وربما يمكن القول إنّ "فتح" تراجعت خطوة، و"حماس" تراجعت خطوتين. كان الاتجاه في رام الله، منذ البداية هو السماح بالتحرك، وقررت قطاعات في حركة "فتح" المشاركة في المسيرات، تناغماً مع الشارع، أو حتى انتهازاً للفرصة لبناء برنامج مواجهة جديد ضد الاحتلال تقوده هي، ولفرض هذا البرنامج داخل "فتح" ذاتها. بينما قررت عناصر أخرى في الحركة ركوب موجة المظاهرات سعياً لتوجيه الغضب ضد "حماس" في غزة، لكن بشكل عام كانت هناك موافقة على التحركات. وفي غزة كان هناك تردد في التعامل مع فكرة نزول مظاهرات للشارع لا تقودها "حماس"، وكانت مواقف قيادات الحركة أقرب للتحفظ، وتراوحت بين رفض التعليق على الفكرة، وبين الإشارة إلى ضرورة "عدم استغلال هذا (التحرك) لتنفيذ أجندات حزبية وإعادة الفلتان الأمني"، كما قال أحد قياديي الحركة. كان هناك ترقب: هل يمكن أن يتواجد زخم شعبي في غزة قادر على النزول إلى الشارع وكسر حظر "حماس" على مظاهر قد تبدو معارضة لها، أو حتى مستقلة عنها؟ حاولت "حماس" استباق الحدث واستلام زمام المبادرة بتسيير مسيرة قادتها تحت شعار "إنهاء الانقسام"، يوم الجمعة الفائت، دعت لها فصائل مختلفة. وعندما قرر هنية تأييد التحركات "الفصائلية والشبابية" اشترط أن تكون "محكومة" بما أسماه "السقف الوطني". نادراً ما تمكنت قوى لا تتحرك باسم فصائل من حشد أعداد كبيرة في الشارع الفلسطيني، وربما تكون هذه المرة الأولى، ومنذ عقود، التي تتبلور فيها تحركات مستقلة عن الفصائل. وفي الحالتين: الضفة وغزة، تبعت الفصائل الجماهير، وهذه أيضاً ظاهرة جديدة، تؤكد صعود فئات مستقلة وشبابية تفرض أجندتها. في غزة انكسر المنع "الحمساوي" لأي تعبير جماهيري واسع مستقل عنها. وفي محاولة لإثبات الوجود حاول شباب يرفعون شعارات وأعلام "حماس" دخول المظاهرة، واستثمارها على نحو ما قام به شباب من "فتح" في الضفة. وقد رفض المتظاهرون أن يقوم شباب "حماس" بذلك وأخرجوهم من التحرك، وهو ما يسجل أيضاً سابقة لافتة، وخلخلة في قبضة "حماس" في غزة. تمترس الفصيلان الفلسطينيان في مواقفهما الخلافية طويلاً، وفشلا في تقديم برنامج نضالي عملي يجمع الجمهور حوله، وأغرقا الشارع في استقطاب مرير، لكن ما يحدث الآن، يبدو نوعاً من نهاية القطبية في الشارع الفلسطيني، لصالح حيوية قطاعات واسعة شبابية قادرة على التحرك باستقلال، وبالتوافق مع الفصيلين، أو أحدهما حيناً، ورغماً عنهما حيناً آخر، ومن المرشح أن تتطور لهذا التحرك أدوات وبرامج عمل واسعة، موجهة لا نحو الداخل الفلسطيني وحسب، بل في مواجهة الاحتلال.