23 يوليو 2004 من الأيام التي نتذكر فيها قول الرسول عليه الصلاة والسلام "إن لله تعالى في أثناء كل محنة منحة". في ذلك اليوم أعلن ممثلو سكان مدن العالم المجتمعون في الإسكندرية بمصر لائحة "الحق في المدينة"، فيما كانت دبابات الاحتلال تدّمر شوارع المدن العراقية. والمسافة بين المحنة والمنحة تُقاس بالألفيات في العراق، حيث ولدت المدينة قبل خمسة آلاف عام لأول مرة في التاريخ. والتاريخ ليس سلسلة جامدة من تواريخ وأحداث، بل عملية متصلة من طرح الأسئلة والعثور على أجوبة. وأصعب الأسئلة الباحثة عن أجوبة طرحتها انتفاضات المدن الفلسطينية التي سجّلت الرقم العالمي في بطولة "الحق في المدينة". وعندما كان تحالف الاحتلال والطائفية يقطع قلوب المدن العراقية بجدران إسمنتية، كان شباب مصر يطورون طرق المقاومة العمرانية في قلب المدن. يروي تفاصيل ذلك وائل صلاح فهمي، الأستاذ المساعد في التخطيط العمراني بجامعة حلوان في بحثه "مدونو حركة الشوارع والحق في المدينة". ويشرح البحث المنشور بالإنجليزية في مجلة "البيئة والعمران"، "استعادة أحياز الحرية الحقيقية والافتراضية في القاهرة"، والتحديات التي يواجهها نشطاء العمران المصريون للتعبير عن الآراء المختلفة في الأماكن العامة في المدينة، وكيفية تطوير طرق جديدة لذلك، كالتكتيكات الموقعية، وحملات المقاطعة، والأنشطة الافتراضية "السايبرية"، وفن الاحتجاج، والخط على الجدران "الغرافيتي"، واستخدام التجهيزات العمرانية، ووسائل الاتصالات. ويتناول فهمي المعروف ببحوثه في مجلات عالمية حول "أحياء الزبالين" و"مدن المقابر"، طرق النشطاء في استعادة أماكن عامة متنازع عليها في قلب القاهرة، كميدان التحرير، وتحويلها إلى مناطق للاحتجاج الجماهيري، وإنشاء مواقع متمترسة للمقاومة العمرانية، والمواجهات الحيّزية. والحق في المدينة "يعني الحق في تغيير أنفسنا عن طريق تغيير المدينة". صاغ هذا المفهوم في ستينيات القرن الماضي الفيلسوف الفرنسي التقدمي هنري ليفيفر في كتابه "الحق في المدينة". وتجاوز المفهوم نقص اللائحة العالمية لحقوق الإنسان، حين نصّ على أنه ليس مجرد الحق في السكن وحرية تنقل الأفراد في المدينة واستخدام مواردها العمرانية، بل حقهم في المشاركة الكاملة باستخدام وإنتاج الأحياز العمرانية، دون تمييز أو إقصاء، بسبب الانتماء الإثني، أو المعتقد، أو الجندر، أو العمر. وتبنّى برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية "الموئل"، لائحة "الحق في المدينة"، والتي شارك في تطويرها النشطاء الشباب حول العالم. وتعتبرُ اللائحة المدينة "أي بلدة، وعاصمة، وقرية، وموقع، وضاحية، ومستوطنة أو ما شابه ذلك، مما يُنَظّمُ دستورياً كوحدة ذات طابع محلي حكومي أو بلدي أو مناطقي، بغض النظر عما إذا كانت حضرية، ريفية أو شبه ريفية. ويحق لجميع المقيمين في المدينة، بشكل دائم أو وقتي المشاركة المباشرة في إدارة وتخطيط حكومة المدينة، على أساس تعزيز شفافية وكفاءة واستقلالية الإدارات العامة والتنظيمات الشعبية. ولجميع المواطنين الحق في المساهمة بتخطيط، وتصميم، ورقابة، وصيانة، وإعمار، وتحسين المستوطنة الحضرية، بهدف التوصل إلى أحياز ومعدات ملائمة للوظائف المحددة التي يقومون بها لتحقيق شروط معيشية معينة تستجيب لمطامحهم الذاتية". وأنشئت أول مدينة في التاريخ، واسمها "أريدو" في جنوب العراق، على حافة الأهوار في موقع "أبوشهرين" الحالي. وانتظمت بعدها المدن كالجواهر في القلادة على امتداد نهري دجلة والفرات: "أوروك" و"شورباك"، و"أكد"، و"أور"، و"نيبور"، و"سيبار"، و"آشور"، و"نينوى"، ثم "بابل" عاصمة العواصم (المتروبوليس)؛ وهي أول حاضرة إمبراطورية في التاريخ، أنشئت في الألفية الثانية قبل الميلاد، وعلى أطرافها توفي الإسكندر المقدوني دون أن يحقق حلمه بجعلها عاصمة إمبراطوريته العملاقة. والمدينة أهم إبداعات الحضارة العراقية، حسب المؤرخة البريطانية "غويندولين ليك" التي ذكرت في كتابها "بلاد ما بين النهرين" أن دراسة تكوين أسنان وعظام سكان "أريدو" تبيّن أن أصلهم كسكان العراق الحاليين من البحر المتوسط. ووصفت المؤرخة البريطانية كيف طوّر قدامى العراقيين المدينة كمفهوم للمجتمع البشري "غير المتجانس، والمُعقّد، والمتغير باستمرار، إلاّ أنه في النهاية قابل للحياة والنمو". ونشأت أول المدن في أعقاب "الطوفان" الذي أحدثه تغير المناخ العالمي، وكان مهد ميلادها تراكم فائض الغلة في التربة الغرينية العذراء التي انحسرت عنها المياه. ولم تضع أي جماعة إثنية يدها على النظم البيئية الناشئة جنوب العراق، والتي كانت توفر الطعام لعدد كبير من السكان في رقعة من الأرض أصغر من المناطق التي تعتمد على الأمطار في الشمال. يذكر ذلك عالم الآثار الألماني "هانس نيسين" الذي استقصى أصول قيام المدن في كتابه "مسك الدفاتر القديم، وبواكير التدوين وتقنيات الإدارة الاقتصادية في الشرق الأدنى". وذكر "نيسين" الذي نقّب على مدى سنوات في موقع "أوروك" أن "الكثافة السكانية العالية ومخاطر الصراع حفزا الحاجة لوضع قواعد تمكن الناس أو المجتمعات من العيش سوية، ولذلك أهمية أكبر في قيام حضارة متقدمة من مجرد الحاجة لإنشاء هياكل إدارية". وذكر أن "إمكانيات تقنية جرى تطويرها وتحسينها في أماكن أخرى تعاظمت في جنوب العراق، حيث استخدمت ليس لإنتاج الغذاء فحسب، بل أيضاً لتطوير الهياكل التنظيمية". وتنتهك الطائفية والتعصب المذهبي والقومي "الحق في المدينة"، ليس فقط بحكم عقائدها القائمة على التفرقة والإقصاء والاجتثاث، بل أيضاً بحكم مصالح وطبقات وجهات "جيوسياسية" داخلية وخارجية تمولها وتستثمرها في تزييف الوعي الوطني للسكان، وانتهاك وحدة البلد. وتاريخ قيام وتطور المدن في العراق أعقد من أن تفسره نظرية ابن خلدون حول صراع الحضارة والبداوة، والتي اعتمدها عالم الاجتماع علي الوردي في كتابه "طبيعة المجتمع العراقي". ففي نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد كان 90 في المئة من سكان جنوب العراق يعيشون في المدن. واستدعت عوامل بيئية وجغرافية متغيرة إنشاء المدن كمراكز ثابتة في منطقة وفيرة الغلة لا تحدها موانع طبيعية تعزلها اجتماعياً وثقافياً، ويدفعها نقص الموارد المحلية إلى إقامة علاقات تبادل طويلة المدى فيما بينها، والتي نشأت عنها الدولة. وتعجز نظرية صراع الحضارة والبداوة عن الإحاطة بالطبيعة المعقدة للمدن العراقية التي تمثلت موجات بشرية وثقافات كبرى اجتاحتها، كالهيلينية، والفارسية، والعربية، والمغولية، والتركية. وتلاقحت مدن العراق عبر التاريخ مع عقائد وحضارات غزتها، واستنبتتها لتوليد عواصم ومراكز حضارية إقليمية وعالمية: بغداد، والبصرة، والكوفة، والموصل، والنجف، وكربلاء، ووقع على عاتق بعضها القيام بدور خط الدفاع الأخير عن الدولة في ظروف ضعفها، وتشّتت إرادتها السياسية.