أراه عصراً خرافياً، ينتشر الغضب الجماهيري فيه انتشار النَّار في الهشيم عابراً الحدود. ربَّ قائل يقول: إن سبب الثورات بتونس ومصر وليبيا واليمن أن المقام طال بالرؤساء، والدَّيمقراطية لم تأت بجديد ولا خففت مِن المعضلات، أما العِراق فالتجربة مازالت فتية، والإرث ثقيل، فعلام احتجاج "شعيط ومعيط"؟! لكن ثماني سنوات في التجارب السياسية لا تُعد فتية هذا أولاً. وثانياً أن مِن طبيعة السُّلطة المعقودة تحت راية حزب شمولي، ديني أو لا ديني، تأخذ الحقائق مِن دوائر حزبها، فحسبها ترى ما تفعله عين الصَّواب، وما عداه مؤامرة! المقتول بيدها مجرم والهتاف ضدها شغب، هذا ما لاحظناه في إعلام رئاسة وزراء العِراق، الممثل بهيئة الإعلام وأمنائها، مِن الجهاديين والمناضلين السَّابقين. فكيف لا يغضب "شعيط ومعيط" وقد سلموا تلك الأحزاب السُّلطة بأصواتهم ومغامرتهم بتحدي الإرهاب! برز مصطلح العامَّة "شعيط ومعيط عراقياً" جلياً في أدب العصر العباسي، أُشير به إلى سواد النَّاس مِن الزُّراع والصُّناع والمكدين وأضرابهم. واتسع المصطلح لفئات المثقفين. وليس أكثر مِن استخدام الخاصة للعامَّة في صراعات الفرق والمذاهب، يحركهم شعار أو هتاف، لأن للمشاعر الدِّينية والمذهبية فعلها في النفوس. لا ندري، ما صلة تسمية أهل السنَّة بالعراق بأبناء العامة، أو هكذا شاعت منذ كانت جماعات الحنابلة تهيمن على الشَّارع في القرنين الثَّالث والرَّابع الهجريين، ولأمر قد لا يكون اختلاقاً مِن خصم، فالشَّهرستاني، وهو شافعي، ميزَ، على أساس الفقه، بين العوام والمجتهدين. قال: «أما العامي فيجب عليه تقليد المجتهد» (الملل والنِّحل). كذلك يُسمَّي مجتهدو الشِّيعة مقَلِديهم بالعامة، أو قولهم: هذا ما جرى عليه العوام. هذا مِن حيث المصطلح، أما واقع الحال فالعامة هم السَّواد، مِن العام غير المخصوص، وما أكثر مرادفاتها الجارية على ألسنة الخاصة في أحوال احتجاجها: الغوغاء، الرُّعاع، أخلاط النَّاس، شذاذ الطُرقات، السَّوقة، السَّواد وغيرها. وتُقابل اللغة الفصحى، منذ العصر العباسي، العامية. أما بالعراق فيكنى عنهم عند الاحتجاجات بـ"شعيط ومعيط"، وتعني "اجتماع التَّافهين" (الشّالجي، الكنايات البغدادية). ولشاعر العامية الملا عبود الكرخي (ت 1946) في شأن واحدة مِن الانتخابات: "وإلا إحنا (نحن) ما نقبل أبد بشعيط.. بالمجلس علينا ينتخب ومعيط" (نفسه). لكن مشكلة "شعيط ومعيط" ما أن ينال بعضهم السُّلطة عن طريق ما حتى يبذلوا جهدهم لمحو الكناية عنهم، بل لا يتأخرون في إطلاقها على المحتجين ضدهم، فما حصل أن أعضاء المجالس البلدية والمحافظات بل ووزراء أشاروا إلى المتظاهرين بالغوغاء والرُّعاع، مثيري الشَّغب والفتن. بينما قُبيل الانتخابات يجري تملق "شعيط ومعيط" ومحاولة جذبهم بالحلال والحرام! لا يكاد يمر يوم مِن أيام الدَّولة العباسية بلا تمرد، أبطاله "شعيط ومعيط"، ومع ذلك كان لهم الدور الأكبر في الدِّفاع عن بغداد عندما اجتاحها قائد جيش المأمون (ت 218) خلال الصِّراع بين الأخوين على الخلافة، فأظهر هؤلاء شجاعة بالغة في الحرب (الطبري، تاريخ الأمم والملوك). ومَن يُدقق في تاريخ العامة يجد أسباب ثوراتهم محصورة في: غلاء الأسعار، فساد الوزراء والقواد، زيادة الضَّرائب، الفشل في الدِّفاع عن البلاد، حصول كوارث، خشونة العسكر في الطُّرقات، عدم وجود الأمن، نعرات مذهبية. ويغلب على الظن أن سُّلطة "البعث" استفادت مِن تجارب حكام بغداد الأوائل في ما يُشغل العامة، مثلاً ما اتخذه مُعز الدَّولة البويهي (ت 357 هـ) مِن تدابير لإسكاتها: أشاع رياضة الرَّكض والسباق بين الركاضين فبرزت أسماء تعصب النَّاس لهم فانشغلوا فيهم، وأوجد رياضة المصارعة في "حلبة صراع تتوسطها شجرة محملة بالجواهر فمن غلب فهي له"، وأوجد سباق السِّباحة (سعيد، العامة في بغداد عن المنتظم). ومَن يتذكر نزالات عدنان القيسي في بداية السَّبعينيات، لا يشك بما ذهبنا إليه. لا تعني كثرة استعمال مصطلح العامَّة في الأدب العباسي أنه لم يجر على ألسنة المسلمين الأوائل، فمما أوصى به الخليفة علي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ) ابن الأشتر (اغتيل 37 هـ) وهو يتوجه لولاية مصر: «إن سخط العامَّة يُجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة» (نهج البلاغة). وظل التنافذ بين العامَّة والخاصة جارياً، فالأيام ترفع وتحط، لهذا ظهرت كتب آداب القصور ليتعلمها مَنْ يرتقي مِن درك العامة إلى قمة الخاصة. يعد منها ابن النَّديم (ت 438 هـ) في «الفهرست»: «آداب السلطان» للمدائني (ت 225هـ)، و«آداب الملوك» للسرخسي، والأخير كان مُعلم المعتضد بالله (ت 289 هـ). ومن أهمية العامَّة أنه لم ولن يسود أحد دون الاعتراف بفضلهم وجذبهم عند المحاولة للقبض على السُّلطة؛ فهم وقود الحروب وأحجار القصور وأدام الموائد، مع ما فيهم مِن كثرة الرعاع وقلة الحكماء. ورغم ثورية المعتزلة وطلبهم للعدل، نجدهم تعالوا على العامَّة، فهذا واصل بن عطاء (ت 131 هـ) يقول: "ما اجتمعوا إلا ضروا، وما تفرقوا إلا نفعوا... يرجع الطَّيان (الفلاح) إلى تطيينه، والحائك إلى حياكته، والملاح إلى ملاحته" (عن رسائل الجاحظ). لكن إن صحت العبارة عن مؤسس المعتزلة ابن عطاء فبأي قوة حاول الثَّورة ضد الأمويين إذا لم يجتمع العامة تحت رايته! لا أدري إلى أي مدى تعبر المقولة الماركسية بأن الجماهير الشعبية (العامة) هي صانعة التَّاريخ عن واقع الحال! وضدها: "النَّاس على دين ملوكهم"! نعم، كلُّ الثَّورات الفاصلة، مِن العباسية (132 هـ) إلى الفرنسية (1789)... كانت مادتها الحائك والطَّيان، حسب ابن عطاء، لكن ماذا عن البناء! أيدبر مصلح السَّيارات، أو نادل المقهى مثلاً، إعادة العُمران في زمن التكنولوجيا الهائلة التعقيد! والمعلوم، حسب "إخوان الصَّفاء"، أن الأوطان لا تعمر إلا باشتغال أهل الصناعات بصناعاتهم! لذا تبقى العبارتان سالفتي الذِّكر نسبيتين! عذراً، لا عيب في تلك المهن، ولا أعني التقليل مِن شأن "شعيط ومعيط"؛ فذاك عصر قد زال، بل ظهر منهم التُّكنوقراط، وجل الفنانين، إنما أعني مَن ارتفع منهم وعلى أكتافهم وتناساهم، وصار يعيرهم بالكناية نفسها! كان يسعى إلى السُّلطة عبرهم وبعدها يحاول الاحتفاظ بها ضدهم! يبقى الواجب شرح الكناية: شعيط يراها صاحب الكنايات البغدادية منحوتة مِن "شعواط" الشيء الذَّي تمسه النَّار، و"معيط" منحوتة مِن نتف الشَّعر! وما جمع بينهما الميل للسجع، وطلب التَّحقير!