أكدت طائفة من الأحداث المتتالية، الشك الذي يشعر به المحافظون منذ فترة طويلة تجاه روبرت جيتس، وهو ما أثار تذمراً، ودعا ويليام كريستوف للمطالبة بإحالة وزير الدفاع الأميركي للتقاعد المبكر. ففي كلمة له في "ويست بوينت" الشهر الماضي، رأى "جيتس" أن أي شخص يطالب بتدخل أميركي واسع النطاق في آسيا يحتاج - حسب عبارة الجنرال ماك آرثر الشهيرة - "إلى من يفحص له عقله". وهذه العبارة تبدو غريبة في الحقيقة، خصوصاً في الوقت الراهن الذي تحشد فيه الولايات المتحدة ما لا يقل عن 100 ألف جندي في أفغانستان (بناء على توصيات جيتس نفسه). وتشكك جيتس - الذي لا يخفيه - في فرض منطقة حظر طيران في ليبيا، أدى إلى شلل إدارة أوباما فلم تعد قادرة على الحركة، ولا على إبداء مشاعر التعاطف الإنساني حيال الأزمة الحادثة في هذا البلد. علاوة على ذلك، فإن الرحلة التي قام بها "جيتس" مؤخراً للبحرين، والتي حث فيها على البدء في عملية حوار سياسي في اليوم السابق مباشرة على وصول القوات السعودية، لهذا البلد لدعم العائلة المالكة فيه، بدت غير متسقة مع خطى التغيير في المنطقة. وتشكك جيتس في إمكانية التطبيق العملي للجوانب المثالية للسياسة الخارجية، يعد من قبيل التراجع للتلك الأيام التي كان بوش الأب لا يني فيها عن القول "ينبغي أن نكون واقعيين للغاية". وأثناء مرافقتي له في جولته الأخيرة التي شملت أفغانستان، وأوروبا، والبحرين، حدثني جيتس "عن القدرة على صياغة العالم وصياغة الدول التي يختلف تاريخها، وثقافتها، وتقاليدها، عن تاريخنا، وثقافتنا، وتقاليدنا، ومدى الصعوبة التي نواجهها في صياغة تلك الدول على شاكلتنا". ولكن القبول بهذا الوصف الذاتي، الحريص، والمتشكك، للمثالية والتدخل، يجعلنا نفقد مغزى المفارقة التي يمثلها"بيل جيتس". فجيتس هو الرجل الذي ساعد على إنقاذ استراتيجية زيادة عدد القوات في العراق، عندما بدأ كبار المسؤولين "الجمهوريين" في التذبذب في مواقفهم، وبدأ الزعماء "الديمقراطيون" يضغطون من أجل تعيين موعد محدد للانسحاب. "جيتس" هو الذي وفر غطاءً واقياً للجنرال بترايوس في العراق وأفغانستان.. وهو الذي حذر أوباما من الميول المناوئة للحرب الموجودة لدى كبار مساعديه في البيت الأبيض ولدى قاعدته الديمقراطية، وما يمكن أن يترتب على ذلك من تأثير ضار على القوات الأميركية الموجودة في أفغانستان، وهو أيضاً الذي تمكن ببراعة وذكاء من صرف الأنظار عن الموعد الذي كان أوباما قد حدده للبدء في سحب القوات الأميركية من أفغانستان بعد أن جاء إلى البيت الأبيض - شهر يوليو - وغيّره إلى موعد آخر، أكثر واقعية وهو عام 2014 المقرر أن يستلم فيه الأفغان المسؤولية الرئيسية عن أمن بلادهم. لم يكن ممكناً سوى لرجل واقعي في مجال السياسة الخارجية، ويتمتع بالقدرة على طمأنة الجماهير أن ينقذ حرباً لا تحظى بـتأييد الشعب من الفشل (حرب العراق)، وأن ينجز هذا التحول من إدارة محاربة لإدارة غير محاربة بهذا القدر من السلاسة، وأن يضع حرباً أخرى (حرب أفغانستان) على المسار السليم - مثل "جيتس". فجيتس رجل يثبت بجلاء أن الصوت الخافت، لا يعني بالضرورة ضعف المواقف... فقد قال لي بصوت خافت حقاً، ولكنه حاسم"إن زيادة عدد القوات في أفغانستان، قد مثلت علامة تغيير جذري حقاً، ولكنها تبرز في نفس الوقت نقطة أود التدليل عليها وهي- الكلام لا يزال لجيتس - أنني عندما توليت مهام منصبي في 18 ديسمبر، كان عدد من قتلوا أثناء العمليات في أفغانستان 194 جندياً، في حين يصل هذا العدد الآن إلى 1155جندياً... فماذا يعني ذلك؟ يعني أن تلك الحرب وخلال المدة من 2002 إلى 2007، بل و2008 أيضاً كانت تخاض على مستوى منخفض للغاية. كانت الاستراتيجية العسكرية التي اتبعها "جيتس" تنقسم لشقين: الأول، هو تحقيق النصر في الحربين اللتين تخوضهما الولايات المتحدة في الوقت الراهن، والثاني تنشيط وزارة الدفاع الخاملة. فكل فرع من فروع القوات المسلحة كما يقول جيتس، يفكر في توفير جهده للحصول على القدرات المستقبلية المرتفعة التكلفة التي ستمكنه من تحقيق نتائج ممتازة في أي مواجهات مستقبلية. ولكن الحقيقة - كما يرى جيتس أيضاً - أن هذه الفروع سواء كانت الجيش أو القوات الجوية أو القوات البحرية أو "المارينز" تستطيع أن تنجز الكثير بالأسلحة والمعدات الموجودة في حوزتها في الوقت الراهن.. ولكن نظراً لأن هؤلاء القادة ينتمون إلى الثقافة التي أشرت إليها، أي ثقافة المطالبة بالحصول على معدات أكثر تطوراً ذات تكلفة باهظة لإنجاز الأهداف التي يكلفون بها، فإنه كان من الصعب عليهم أن يقوموا بمأسسة العمل، وتحديد الأولويات التي يمكن لهم بواسطتها إنجاز المطلوب منهم. وفقا لتقديرات تقريبية تبلغ تكلفة برامج مقاومة التمرد 10 في المئة من الميزانية السنوية لوزارة الدفاع الأميركية بينما يخصص 50 في المئة من تلك الميزانية للاحتياجات المستقبلية، أما الـ40 في المئة المتبقية من الميزانية فإنها مخصصة لباقي الاستخدامات. بناء على ما يستدل عليه من أحاديثه الأخيرة يخشى "جيتس" أن تكون المكاسب التي تحققت مؤقتة، وأن تنسى فروع القوات المسلحة، بمجرد أن تخفت وتيرة الحربين الدائرتين الآن الدروس العديدة المستمدة منهما. من المنتظر أن يتقاعد "جيتس" خلال الشهور القليلة القادمة. ومهما كانت الانتقادات الموجهة إليه في الوقت الراهن، فليس من المنتظر أن يكون الرجل الذي سيحل محله أفضل منه. مايكل جيرسون كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة"واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"