منذ أن أشعل بائع الفاكهة التونسي "محمد البوعزيزي" النار في نفسه في شهر ديسمبر الماضي، تحولت الانتفاضات العربية إلى فيروس قابل للتحول، وهذا ما جعل القذافي -الذي أشعل النار في ليبيا كلها- شخصاً مهمّاً للغاية. وفي البداية لم يوحِ البوعزيزي بالانتفاض والثورة، وإنما بالتضحية بالنفس.. وهو إيحاء سرعان ما تم تبنيه في البداية في الجزائر حيث انتحر عدة أشخاص بإحراق أنفسهم، وبعد ذلك في مصر حيث حدث الشيء نفسه. ولكن الفيروس سرعان ما حول نفسه في صورة حركة علمانية جماهيرية انطلقت في تونس تحت راية الديمقراطية الليبرالية.. وبعدها قام الناشطون المصريون الشباب بتبني نفس القضية. وقررت بعض الجيوش -الحليفة للولايات المتحدة- في تونس ومصر وغيرهما عدم قتل مواطنيها لمجرد المحافظة على استمرار الوضع القائم. وكل قرار من القرارات التي اتخذتها تلك الجيوش ساهم في تعزيز مبدأ اللاعنف الذي تسعى الولايات المتحدة والقوى الخارجية عموماً إلى الدفع به قدماً في الثقافة العامة السائدة. وفي الوقت الراهن يقوم القذافي بتغيير طبيعة الفيروس مرة أخرى. فعلى رغم أن الجنون الذي انطوى عليه كتابه المسمى "الكتاب الأخضر"، أدى إلى وضع ليبيا لعقود على هامش الحياة السياسية العربية، إلا أن حملة الأرض المحروقة التي يقوم بها في الوقت الراهن لحماية نفسه، لم تؤد فحسب إلى إيقاف تقدم قوات المتمردين نحو العاصمة طرابلس خلال الأسبوعين المنصرمين، وإنما فعلت الشيء نفسه أيضاً مع حركة الاندفاع العربي نحو الديمقراطية. وإذا ما تمكن القذافي من البقاء في الحكم، فإن فيروس نزيف الدم القمعي، والأتوقراطيات المتشبثة بمواقعها يمكن أن يتدفق عبر المنطقة العربية.. بل يمكن القول إن هذا الأمر قد حدث بالفعل، حيث شهدت مصر انفجارات خطيرة للعنف خلال الأسبوعين الماضيين شملت اشتباكات طائفية بين المسلمين والمسيحيين. وفي اليمن هاجمت قوات الأمن جموع المحتشدين في أحد ميادين صنعاء بالذخيرة الحية مرتين خلال الأسبوع الماضي.. وفي البحرين عادت الاشتباكات أيضاً بين قوات الأمن والمتظاهرين مرة أخرى. أما القوى الموالية للديمقراطية خارج مصر وتونس، فقد توقفت.. في الوقت نفسه الذي هدأت فيه الجزائر والمغرب. بيد أنه يتعين القول مع ذلك إن القوى الليبرالية في مصر ما زالت قوية. فالحركة التي قادها الشباب في ميدان التحرير -التي لا تزال غير منظمة نسبيّاً حتى الآن- نجحت في الإطاحة بالنظام السابق، وتدمير قيادات جهاز أمن الدولة الرهيب الذي طالما اعتمد عليه. وهناك مرشحان موثوقان للحلول محل مبارك في منصب رئيس الجمهورية هما عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية، والدكتور محمد البرادعي الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية. والاثنان أعلنا نيتهما الترشح، وهو ما يوفر احتمالات قوية لتنافس ديمقراطي حقيقي، يمكن أن ينتج محصلة ديمقراطية يستطيع جيران مصر وحلفاؤها التعايش معها. ولكن بعض المصريين يعتقدون أيضاً أن بلدهم يقترب على نحو خطير من التفكك. فقد قال لي مصدر موثوق تحدثت إليه "ربما لن نتمكن حتى من الوصول إلى الانتخابات الرئاسية" وأضاف هذا المصدر أن السبب في ذلك يرجع إلى أن الاقتصاد يكاد يكون متوقفاً، وأن الحكومة قد لا تتمكن عما قريب من توفير الأموال اللازمة لدفع المرتبات والمعاشات، وأن كافة السلطات الموجودة في البلد تتداعى: فمديرو المصانع وقادة الاتحادات والنقابات يتعرضون للتحدي من قبل عمال المصانع وأعضاء تلك النقابات في حين اختفت قوات الشرطة إلى حد كبير من الشوارع. وهذا المصدر المصري لديه أيضاً فكرة مزعجة في الحقيقة عبر عنها من خلال سؤال هو: "ماذا كان يمكن أن يحدث في مصر لو أن الانتفاضة قد حدثت في ليبيا أولاً"؟ والحال أن هذه الفكرة أثارت لديّ سؤالاً آخر مقلقاً هو: في منطقة مثل الشرق الأوسط.. إذا ما نجح ديكتاتور في شق طريقه عبر المذابح إلى فترة من الأمان المؤقت.. فما الذي يمكن أن تفكر فيه بقايا النظام الاتوقراطي الذي كان سائداً في مصر.. وما هي الأشياء التي قد تُغري تلك البقايا بالقيام بها إذا ما تفاقم الاضطراب وعدم النظام في البلاد؟ ليس هناك شك في أن رئيس وزراء مصر الإصلاحي الجديد عصام شرف يفكر في كل هذا وهو ما دعاه إلى التحذير الأسبوع الماضي مما وصفه بثورة مضادة منظمة ومنهجية قال إنها تتم بالفعل. وفي المقابل هناك سؤال آخر: ماذا يمكن أن يحدث إذا ما تم إسقاط القذافي من خلال مساعدة عسكرية تقدم للمعارضة من فرنسا، أو الولايات المتحدة أو غيرهما من القوى الغربية -في صورة شحنات أسلحة عاجلة أو فرض منطقة حظر طيران؟ قد يعتقد البعض أن ذلك يمكن أن يضعف الثوار العرب، من خلال إدخال عنصر أجنبي على المعادلة. وعلى الأرجح سيؤدي ذلك إلى حدوث العكس تماماً، ويمكن أن تستشفوا الإجابة من خلال سؤال واحد من عتاة المعارضين للتدخل العسكري، وهو كاتب العمود في "واشنطن بوست" جورج إف. ويل". ففي مقاله المنشور الأسبوع الماضي قال: "لقد شاهدت الجماهير المصرية ما فعلته الجماهير التونسية على التلفزيون وقامت بتقليدها وهو ما فعلته القيادة الليبية أيضاً. فتلك القيادة شاهدت على التلفزيون ما حل بالقيادتين التونسية ومن بعدها المصرية وقررت أن تقاتل مهما كان الثمن". وهنا يغدو السؤال: ألا يشجع التدخل الأميركي في ليبيا شعوباً أخرى قلقة على توقع مساعدة عسكرية من الولايات المتحدة. الإجابة هي: ربما يحدث ذلك.. ومن هنا فلو ظهرت حركة معارضة قوية في سوريا وطلبت من الغرب أسلحة أو إسناداً جويّاً من أجل القضاء على النظام، فهل سيكون ذلك بمثابة كارثة؟ جاكسون ديل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفيس"