عندما التأم شمل الدورة العادية الأخيرة للمجلس الوزاري لجامعة الدول العربية في الثاني من الشهر الجاري تأكد النهج غير التقليدي الذي عالجت به الجامعة مسألة الثورة الليبية، والذي ينطلق من اتخاذ موقف معارض لنظام حكم في دولة عربية بشأن تطورات داخلية فيها. كان المجلس قد اجتمع وقد صدر أصلاً قرار سابق على انعقاده على مستوى المندوبين الدائمين بوقف مشاركة وفود الحكومة الليبية في اجتماعات مجلس الجامعة وجميع المنظمات والأجهزة التابعة، بسبب موقف هذه الحكومة مما يجري داخل ليبيا من أحداث، وساعد على تبني هذا الموقف أن المندوب الليبي الدائم لدى الجامعة قد أعلن استقالته وانضمامه للثوار منذ الأيام الأولى للثورة. وقد أصدر المجلس في دورته العادية الأخيرة قراراً جاء ضمن بنوده "أن الدول العربية لا يمكنها أن تقف مكتوفة الأيدي في شأن ما يتعرض له الشعب الليبي الشقيق من سفك للدماء"، ونص القرار على أن الدول العربية ستستمر في مشاوراتها حول "أنجع السبل لحماية وضمان سلامة وأمن المواطنين الليبيين"، "بما في ذلك الالتجاء إلى فرض الحظر الجوي والتنسيق بين الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي في هذا الشأن"، وذلك في إطار ما قرره المجلس بخصوص "الرفض القاطع لكافة أشكال التدخل الأجنبي في ليبيا". تبدو الخبرة العربية مع فكرة الحظر الجوي صريحة وواضحة في حالة الحظر الجوي الذي فرضته كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا بمبادرة منهما على نظام صدام حسين في العراق فيـما بين غزو الكويت 1990 وغزو العراق 2003. كان صدام قد استخدم عنفاً مفرطاً ضد مواطنيه من الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال الذين انتفضوا ضد حكمه في أعقاب إخراج القوات العراقية من الكويت، فاتخذ القرار الأميركي- البريطاني بدءاً بشمال العراق وانتهاءً بجنوبه حيث يتركز أكراد العراق وشيعته على التوالي. ولاشك أن ثمة عوامل مشتركة بين موقف النظامين العراقي والليبي من الانتفاضة ضدهما في 1991 و2011 -وهو استخدام القوة المفرطة ضد المواطنين- بما يبرر التفكير في تطبيق الحظر الجوي على الحالة الليبية الراهنة. وفي الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب يوم السبت الماضي الموافق 12 مارس 2011 تأكد إقرار الوزراء العرب بالتوافق فكرة الحظر الجوي، حيث أقروا -مع تحفظين سوري وجزائري- الطلب من مجلس الأمن الدولي فرض حظر جوي على ليبيا بهدف حماية المدنيين، وهي خطة تلبي جزئيّاً رغبة الدول الغربية التي كانت قد اشترطت تأييداً عربيّاً وإقليميّاً لتقديم دعم فعلي للثوار، بما في ذلك منحهم غطاءً جويّاً يحميهم من غارات الطائرات الليبية الموالية للنظام. ويلاحظ بطبيعة الحال أن السبب الرئيسي في هذا الموقف غير المألوف من قبل جامعة الدول العربية هو القوة المفرطة التي تعاملت بها القيادة الليبية مع الثوار ومؤيديهم، وهو أسلوب نجح حتى الآن في وقف تقدم الثوار غرباً، وإزاحتهم من مدينتين رئيسيتين كانوا قد سيطروا عليهما، وفتح الطريق للإبقاء على سيناريو خروج النظام الليبي من هذه الأحداث منتصراً بعد أن كان تسلسلها يشير إلى تقدم مطرد للثوار. ويلاحظ ثانيّاً أن الاجتماع الوزاري الأخير يوم السبت الماضي قد تجاوز فكرة التنسيق مع الاتحاد الإفريقي في شأن فرض الحظر الجوي، واتجه إلى مجلس الأمن مباشرة، وهو ما يؤكد تقليداً يبدو أنه أصبح راسخاً في العمل العربي المشترك في الأزمات الخطيرة التي يواجهها، فقد شارك من شارك من الدول العربية في تحرير الكويت في 1991 في إطار تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة، وامتنع العرب دوماً عن قبول إلحاح الحكومات الصومالية المتعاقبة للتدخل حسماً للأمور في الصومال وأحالوا طلبها دائماً في هذا الصدد إلى مجلس الأمن، ورضوا بالحظر الجوي الأميركي- البريطاني على العراق الذي سبقت الإشارة إليه، وهكذا. لا يمكن وضع خطوط واضحة بطبيعة الحال بين الحظر الجوي خاصة والتدخل الخارجي عامة، لكن يلاحظ فيما يتعلق بالشق البري من هذا التدخل أن أصواتاً قد ارتفعت تطالب به إنقاذاً للثوار من الطريقة الوحشية التي يتم التعامل بها معهم. غير أنه يجب التذكير في هذا الصدد بمجموعة من المسلَّمات: أولى هذه المسلمات أن الثوار حين ينتفضون على نظام كالنظام الليبي يدركون دون شك أنهم ليسوا في سبيلهم إلى نزهة، وإنما هي معركة شرسة بكل المقاييس، والحديث عن الدعم الخارجي للثوار بمعنى المشاركة في القتال معهم ضد خصومهم مسألة بالغة الخطورة -على رغم الحرص الشديد على دماء الثوار وأرواحهم- لأنها تعني أن ثمة خللاً في بنية الثورة بين الثوار والنظام القائم سوف "يصلحه" التدخل الخارجي بصفة عامة، وهي مسألة بالغة الخطورة بالنسبة لمستقبل الثورة خاصة إذا كانت القوى القائمة بالتدخل أجنبية كما في حالتنا، لأنها تعني أن المسار والمصير سوف يكونان بيد هذه القوى دون غيرها، وهما في هذه الحالة غير متفقين بالضرورة مع أهداف الثورة، ولعلنا نذكر الحجة التي استخدمها معارضو صدام لتبرير استدعاء تدخل أجنبي لمصلحتهم، وهي أن إسقاطه بالقوى الذاتية للمعارضة مستحيل، وهكذا دخلت قوات الغزو الأميركي العراق في 2003 بتأييد منهم، وفعلت بالعراق ما نعرفه جميعاً حتى الآن. ونأتي بناءً على ما سبق إلى المسلمة الثانية، وهي أن استدعاء التدخل الأجنبي الصريح سيسهل مهمة النظام الليبي في دمغ الثورة بالعمالة للخارج، وتشويه صورتها لدى المواطنين الليبيين المغَيّبين، أو الذين يتعرضون لأجهزة الإعلام الرسمية الليبية التي تبذل قصارى جهدها لإثبات هذه التهمة بحق الثورة والثوار، ونعلم في المقابل كيف ساهمت فكرة المرتزقة الأجانب الذين يستعين بهم النظام الليبي ضد الثوار في تشويه صورته. وتترتب المسلمة الثالثة على الأولى، وهي أن التدخل الخارجي قد لا تكون لديه رؤية واضحة أو صحيحة بخصوص ما يجري، فيرتكب من الأخطاء ما لا يمكن علاجه لاحقاً، كما فعل بول بريمر الحاكم المدني الأميركي للعراق بعد الغزو، الذي مزق بقراراته الدولة والمجتمع في العراق، وألحق بهما من الضرر ما استحال إصلاحه حتى الآن، وقد تكون لدى المتدخل الخارجي رؤية متبلورة فيتدخل في مسار الثورة، ويستغل الفرصة للسيطرة على مصادر ثروة الشعب الليبي وأهمها النفط، وقد يؤدي من الناحية الفعلية إلى تكريس انقسام الدولة والمجتمع، كما حدث في حالة أكراد العراق الذين استغلوا الحظر الجوي الأميركي- البريطاني لوضع لبنات حقيقية لـ"دولة" كردية في شمال العراق. وأخيراً فإن القبول العربي الرسمي بفكرة التدخل الأجنبي يعزز سوابق خطيرة في النظام العربي، ويجعله مستباحاً لتدخلات أخرى بالحق أو بالباطل، وقد تنتج عن بعضها تطورات خطيرة في هذا النظام. ولا يدري المرء هل يمكن أن يكون الحظر الجوي دائماً بعيداً عن فكرة التدخل على الأرض أم لا، ففي حالة اقتصاره على الحيلولة دون تعرض الثوار الليبيين لضربات جوية انتقامية يمكن أن تكون له مبررات مقبولة، ولكن الخوف كل الخوف من أن يتطور لاحقاً بغير إرادة من النظام العربي الذي يعيش هذه المرحلة من التقلصات العنيفة إلى تدخل خارجي صريح له مخاطره ومحاذيره على نحو ما سبقت الإشارة إليه.