قرأ عديدون منا كتاب "ذاكرة ملك" للمرحوم الحسن الثاني الذي صدر سنة 1993، وقد نسج فيه الأفق العربي والمغربي بامتداداته وتشعباته، وجال في سماء العالم بمداده الواسع، وجمع فيه تحليل المُنظِّر، وحصافة المُجرِّب، وإدراك رجل الأقدار... وقد خصّص في هذا الكتاب فصلًا عن المسيرة الخضراء السلمية التي استرجع من خلالها المغرب أقاليمه الجنوبية سنة 1975. في 20 أغسطس من تلك السنة، وفي إطار إعداده السري لهذه المسيرة، استدعى العاهل الراحل وزير التجارة ووزير المالية وقال لهما: "إن شهر رمضان قد يكون قاسيّاً، إذ المحاصيل الزراعية كانت متوسطة، فهل يمكنكما من باب الاحتياط تخزين كمية من المواد الغذائية؟ حتى إذا وجدنا أنفسنا في حاجة إلى عرضها في السوق أمكننا المحافظة على سعر ثابت لها" فأجابا: "بكل تأكيد، وما هي الكمية التي يتعين تخزينها؟ " فقال لهما "تموين يكفي لشهر أو شهرين" ولم يفطنا لشيء؛ واستدعى بعد ذلك ثلاثة جنرالات أدوا اليمين بعدم إفشاء السر، وشرح لهم الملك أن عدد المشاركين في المسيرة الخضراء سيصل إلى ثلاثمائة وخمسين ألف نسمة، فقالوا مستفسرين: "لماذا كل هذا العدد؟" فأجابهم: "إن المسألة في غاية البساطة، فهناك ثلاثمائة وخمسون ألف مغربي ومغربية يولدون كل سنة، وبالتالي فإن هذا العدد ليس بالأهمية التي قد تؤثر على عدد السكان"، وألهبت الفكرة حماس الجنرالات الثلاثة وشرعوا في العمل دون كاتبات أو أجهزة حاسوب، وكانوا يحررون كل شيء بأيديهم، حيث كان يتعين إحصاء كمية الخبز اللازمة لإطعام ثلاثمائة وخمسين ألف شخص، وعدد الشموع الضرورية لإنارة الخيام؛ وبحلول 16 أكتوبر أصدرت محكمة العدل بلاهاي رأيها الاستشاري واعترفت فيه بأن روابط البيعة كانت قائمة على مر العصور بين المغرب والصحراء؛ آنذاك وجه الملك الراحل خطاباً تاريخيّاً إلى شعبه أعلن فيه عن تنظيم المسيرة الخضراء، ولبى المغاربة النداء وكان المشاركون يحملون أعلاماً وطنية ومصاحف؛ وبعد أسبوع على انطلاق المسيرة الخضراء، اتفق المسؤولون الإسبان والمغاربة والموريتانيون على عقد سلسلة اجتماعات أفضت إلى اتفاقية مدريد (14 نوفمبر 1975) التي بمقتضاها عملت إسبانيا على وضع الأقاليم الجنوبية تحت سيادة المغرب وموريتانيا. وخلال الشهرين اللذين كان يهيئ الحسن الثاني فيهما للمسيرة الخضراء، كان هاجس واحد هو شغله الشاغل: "هل سيشبه الشباب المغربي المدلل الآن بمظاهر التقدم آباءهم؟" وكان كل من يطرح عليه السؤال يرد قائلًا: "إن الشباب المغربي لم يتغير، إنه من طينة نفس الشعب". إن هذا التجاوب بين الملك والشباب هو الذي جعل الحسن الثاني يلقي خطابه الشهير وجعل المسيرة الخضراء تؤتي أكلها حتى استرجع المغاربة مناطقهم المحتلة. وأظن أن كل متتبع حصيف للشأن المغربي سيوافقني الرأي إذا قلت له إن خطاب الملك محمد السادس يوم 9 مارس 2011 يعد بعد خطاب المسيرة الخضراء، الخطاب التاريخي الثاني في تاريخ المملكة، إذ سبر الخطابان أغوار حركية التاريخ المديدة، الفاعلة في العمق، وتجاوزا القشرة السطحية لمجرى الأحداث بإيجاد الأسباب والعلل والقواعد البنيوية الثابتة الناظمة للأمور المتغيرة. لقد كان كل المغاربة داخل الوطن وخارجه يوم 9 مارس الجاري قابعين في منازلهم أمام شاشات التلفزة ينتظرون خطاب الملك بعد حركة "20 فبراير" التي حركت المياه الراكدة، وكشفت عن حرية التعبير والتفكير المدهشة من شباب المغرب. ثم جاء خطاب الملك ليفاجئ حتى أقرب مستشاريه، لأنه خطاب ثوري تجاوز سقف مطالب حركة "20 فبراير"، وأعطى للشعب حق اختيار الملكية التي يريدها عبر استفتاء شعبي، بعد تقديم اللجنة الخاصة بمراجعة الدستور تقريرها في يونيو المقبل. وحدد العاهل المغربي مرتكزات المرحلة الدستورية المرتقبة في محاور سبعة مع ترك الباب مفتوحاً لمحاور أخرى: 1) التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية وفي صلبها الأمازيغية. 2) ترسيخ دولة الحق والمؤسسات وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية. 3) الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة وتعزيز صلاحيات المجلس الدستوري. 4) توطيد مبدأ فصل السلطات وتوازنها من خلال تقوية مكانة الوزير الأول وتعيينه من الحزب السياسي الذي تصدَّر انتخابات مجلس النواب؛ وبرلمان نابع من انتخابات حرة ونزيهة مع توسيع مجال القانون. 5) تعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطنين بتقوية دور الأحزاب وتكريس مكانة المعارضة والمجتمع المدني. 6) تقوية آليات تخليق الحياة العامة، وربط ممارسة السلطة والمسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة. 7) دسترة هيئات الحكامة الجيدة وحقوق الإنسان وحماية الحريات. إن المغرب ليس تونس أو مصر، فالمعارضة الاشتراكية وصلت إلى الوزارة الأولى في مارس 1998، وشكلت لحظة نوعية في خلق ميثاق سياسي بين الملكية والمعارضة السياسية، واستبدل منذ ذلك الوقت منطق المواجهة ببناء الثقة كدليل على نضج الفاعلين السياسيين. ولكن على رغم هذه الشحنة الكبيرة التي تأسس عليها الميثاق لم يمكِّن ذلك الفاعلين من توسيع أفقه إلى حد الانتقال "انتقالًا ميثاقيّاً" على شاكلة دول أوروبا المتوسطية، بين النخبة السياسية في الحكم والنخبة السياسية في المعارضة، ليوقع الطرفان بذلك على اتفاق نهائي حول قواعد اللعبة الديمقراطية؛ بل بقي "انتقالاً ممدداً" على شاكلة التجربة المكسيكية؛ وهذا المسلسل يمكن أن يدوم لسنوات تتخلله اتفاقيات أخرى وتنازلات جزئية. ويقيني أن المغرب سيدخل في المرحلة المقبلة إلى مدرسة الدول الديمقراطية المعروفة بـ"الانتقال الميثاقي" انطلاقاً من تجاوب الملكية مع انتظارات الشباب ورهاناتهم على توجهات الحقبة الجديدة وليس مع الأحزاب التي وجدت نفسها تركب بغتة قطار التحول دون أن تتصور ولو للحظة ذلك، ولقد آن الأوان لتزيل عنها غبار القيادات التي شاخت والعاجزة عن مواكبة ثورة الشعب والملك.