الإنترنت الذي مكّن الشعوب التواقة إلى الحرية في الشرق الأوسط من الإطاحة بالطغاة الذين كانوا يحكمونها، هو نفسه الذي مكن "جوليان أسانج" بمجرد لمسة زر على موقعه المسمى ويكيليكس - من تعريض حياة عدد لا يحصى من الناس للخطر، عن طريق نشر آلاف البرقيات الدبلوماسية السرية المسروقة. فعلى الرغم من أن مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، وفليكر، قد منحت المواطنين - الصحفيين في تونس، ومصر، وليبيا، القدرة على تنظيم المظاهرات، وإرسال أخبار التطورات التي تحدث في بلدانهم في الزمن الحقيقي، (أي نفس زمن حدوثها)، فإن شبكة الإنترنت ذاتها تحولت إلى ملاذ للمروجين والمتاجرين بالبشر، ولصوص الهويات الشخصية، كما جعلت تهديد الإرهاب الإلكتروني - استخدام الإنترنت لإسقاط قطاعات اقتصادية بأكملها - حقيقياً وباعثاً على التشاؤم. فالتوترات الكامنة في شبكة الإنترنت، تتفجر في العالم الحقيقي في الوقت الراهن على نحو مفاجئ تقريباً لكافة صناع السياسات في العالم. والسؤال الذي يفرض نفسه في الوقت الراهن عند معرفة ذلك هو: هل يمكن للحكومات تحقيق درجة التوازن الصائبة بين تشجيع التدفق الحر للمعلومات مع القيام في نفس الوقت بحماية خصوصيتها - خصوصية الحكومات - وخصوصيتنا؟ تحقيق هذا التوازن صعب ما في ذلك من شك، حيث لا يوجد هناك برنامج كمبيوتر يستطيع أن يدلنا على ذلك التوازن. فمن المعروف أن شبكة الإنترنت غيرت الطريقة التي يتواصل بها البشر على نحو من العمق لم يحدث منذ اختراع المطبعة. ففي كل يوم، ومن أبراج المكاتب الشاهقة في شيكاغو وغيرها من المدن التجارية الكبرى في العالم، والهواتف النقالة الذكية في باريس، والقرى النائية الموصولة بالكمبيوتر، يتم إجراء المليارات من المعاملات التجارية والشخصية من خلال وصلات الإنترنت، التي لم تكن موجودة بالنسبة لمعظم الناس منذ 15 عاماً فقط. فنحن قادرون اليوم على الاتصال بالأصدقاء والمعارف، وتكوين الصداقات والعلاقات وتعميقها من خلال شبكة الإنترنت، وبطرق لم يكن من الممكن تحقيقها من دون وجودها. كما أن الملايين منا باتوا يعملون بأساليب، وفي مجالات تخصص متنوعة بصورة لم يكن تخطر لنا على بال منذ عقد واحد من الزمان فقط. ولكن ما الذي يحدث عندما يتحول التعبير الحر عن الاختلاف في الرأي، بواسطة المواطنين - الصحفيين إلى نشر لوثائق مسروقة، يمكن أن يؤدي الكشف عما تحتوي عليه من أسرار إلى تعريض حياة بشر للخطر، أو يحول دون نجاح مفاوضات حرجة تجرى من أجل الإفراج عن رهائن؟ وكيف يكون شعورنا عندما نعرف أنه، ووفقا لبيانات "مركز الأطفال المفقودين والمستغلين" يوجد في الوقت الراهن 89 دولة في العالم ليس لديها قوانين لمكافحة استغلال الأطفال في تصوير الأفلام الخليعة؟ هذا الرغم من حقيقة أنه بمساعدة الإنترنت تحول الاستغلال الجنسي التجاري للأطفال إلى صناعة تدر مكاسب تبلغ عدة مليارات من الدولارات سنوياً، لا تعترف بأي حدود فاصلة بين الدول. وهناك أيضاً عملية إساءة استغلال شبكة الإنترنت بواسطة الأنظمة القمعية في مختلف أنحاء العالم. فثمة نظام شرق أوسطي، على سبيل المثال، تمكن من إخماد الحركة الخضراء السلمية عام 2009 من خلال تعقب خطوات المنشقين على شبكة الإنترنت، والتلصص على ملفاتهم الشخصية، والتلاعب بالرسائل المستقبلة والمرسلة بواسطتهم، ثم القيام بعد ذلك بشن حملات دهم دموي عليهم من بيت لبيت بواسطة عناصر أمنية. السؤال: ما هو مدى نجاح واشنطن في تطوير الوعد الذي يمثله الإنترنت وتجنب المخاطر التي يمثلها؟ في خطاب لها الشهر الماضي، أوصت وزيرة الخارجية الأميركية - بحكمة - بـما يعرف بـ "اللمسة الخفيفة"، التي تعني وجود ما أطلقت عليه"الحرية في الاتصال". قالت كلينتون في كلمتها حول هذا الأمر:" لقد تحول الإنترنت إلى فضاء عمومي للقرن الحادي والعشرين أي أصبح مجالًا للحركة، التي كانت تتم في ميادين المدن، والفصول الدراسية، والأسواق، والمطاعم والمشارب، وأماكن التسلية". وقالت أيضاً:"والهدف الذي نسعى إليه ليس هو أن نخبر الناس كيف يستخدمون الإنترنت، أو كيف يستخدمون الميدان العام سواء كان ميدان التحرير، أو "تايم سكوير". وأضافت"فتايم سكوير في حد ذاته يوفر مكاناً للعمل والفاعلية بالنسبة للناس، أما هو نفسه فلا يمتلك أجندة خاصة به". والاكتفاء بفرض القيود على الإنترنت فقط - لن يجدي نفعاً. لأن أي قيود يتم فرضها، سيتم التغلب عليها بواسطة المستخدمين الذين يزدادون ذكاء ومعرفة وتقدماً وتكنولوجيا على الدوام... كما أن تلك القيود سوف تؤدي، ضمن ما تؤدي إليه، ليس لمنع الممارسات السيئة فحسب، بل منع الممارسات الحميدة الأخرى مثل التجارة الإلكترونية التي تعد مسألة جوهرية في عصرنا الراهن. لذلك يجب على صناع السياسات، والدبلوماسيين، والمسؤولين العسكريين أن يتقنوا الإمكانيات الهائلة التي يتمتع بها الإنترنت، مع القيام في نفس الوقت بالتحكم في احتمالات، وإمكانيات استخدام هذا الإنترنت في تدمير حياة أناس أبرياء، وإلحاق الأذى بديمقراطيات تقع في أنحاء مختلفة من العالم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مارك فايفل نائب سابق لمستشار الأمن القومي الأميركي للاتصالات الاستراتيجية والتواصل العالمي في مجلس الأمن القومي الأميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"