تأمنت للمجتمع الدولي شرعية عربية للذهاب إلى حظر جوي فوق ليبيا. وعندما أعلنت الجامعة العربية قرارها تأييد هذا الحظر وطلبه من مجلس الأمن، وخلال مداولات وزراء الخارجية، كانت الطائرات الحربية للنظام الليبي تدك بلدة رأس لانوف وتجمعات المواطنين الثائرين الذين حولتهم صولة الظالم مقاتلين من أجل الحرية والكرامة. اتخذت الجامعة قراراً غير مسبوق في تاريخها، انطلاقاً من إلحاح الضرورة بوجوب حماية المدنيين. هؤلاء الليبيون لم يسعوا إلى حمل السلاح، ولم يريدوا أن يقتلوا أحداً، وإنما فجروا غضباً مكبوتاً منذ أعوام وعقود وأعلنوا أن مصادرة هذا الحاكم لحياتهم حان أن تتوقف وتنتهي. وكانت دول مجلس التعاون الخليجي مهّدت بموقف قوي وحازم برفضها المقتلة الجارية في ليبيا. شيء ما في هذه الأزمة ذكّر عواصم العرب، ولاسيما الخليج، بأجواء أزمة 1990، هذا حاكم عربي آخر يلغ في الإثم. الأول أرسل جيشه لغزو الكويت، البلد الشقيق والجار، متسبباً في واحد من ألم الانكسارات والإحباطات العربية، ودافعاً العراق إلى محنة طويلة لم تنته إلا بغزو أجنبي لإسقاطه ونظامه لإغراق البلد في مخاض دموي مرير بحثاً عن نظام آخر. والثاني تربع على قدر ليبيا ومصيرها اثنين وأربعين عاماً، زج بها في مغامراته وأوهامه ونزواته، لم يحترم أهلها واعتبر نفسه أكبر من بلده ومواطنيه، وحين ثار الشعب تحول النظام إلى أشبه بقوة غازية تستبيح البشر والحجر. وبالتالي وضع نفسه في مسار استدراج تدخل خارجي لتخليص شعبه من شروره. متغيرات جوهرية طرأت بين الأزمتين. أهمها ثورات الشباب وانتفاضات الشعوب، أي بروز حقائق جديدة نابعة من عمق المجتمع ولا يمكن التعامل معها على أنها ظاهرة شاذة أو مفتعلة أو حتى سلبية. أصبح جيل من الحكام والساسة مدعوّاً إلى تجاوز عاداته وأساليبه وثقافته استجابة للجيل الطالع الذي يشكل أكثرية السكان، أو إلى التفكير في نقل السلطة. ولذلك جاءت المقاربة العربية لقضية ليبيا مختلفة تماماً عن تلك التي عُرفت حيال قضية العراق. أتاح هذا الاختلاف أولاً تواصلاً مع ثوار ليبيا واعترافاً عمليّاً بالمجلس الوطني الانتقالي الذي أنشأوه ليكون بمثابة قيادة تمثلهم. وثانيّاً الرفض القاطع للتدخل الأجنبي المباشر، وذلك أخذاً بعبر التجربة العراقية القاسية. وثالثاً ربط الحظر الجوي بأولوية حماية المدنيين واعتباره إجراءً وقائيّاً مؤقتاً ينتهي العمل به بانتهاء الأزمة الجارية. ورابعاً الخوض في نقاش يتعلق ضمنيّاً ومنطقيّاً بمجمل الوضع العربي، ما يعني أن الجامعة انتهزت انعكاسات الثورات وتداعياتها لتضع معايير التعامل مع الأزمات مستوحاة من ميثاقها ولم يكن يجري تفعيلها في السابق. فحيثما يكون الحوار مطروحاً وممكناً فهو مقبول ومفضل ويصار إلى دعمه، ولكن حيثما يبدي النظام القائم عدوانية وعنفاً تجاه الشعوب فإنه سيواجه بالنبذ والاستنكار. وكانت الجامعة اتخذت باكراً قراراً بتعليق مشاركة ليبيا في اجتماعاتها سواء على مستوى المندوبين الدائمين أو وزراء الخارجية. ولكن، للأسف، ظل واقع الأرض سبّاقاً على واقع الديبلوماسية العربية أو الدولية. فعلى رغم أن معظم دول العالم تجاوب مع العقوبات التي فرضت على النظام، زعيماً وأفراد عائلة ومسؤولين كباراً، ولم يعد يعترف بشرعيته، ويؤيد ملاحقته ومحاسبته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إلا أن هذا النظام استغل التلكؤ والتردد في صفوف الدول الكبرى فجرد حملات عسكرية لاستعادة المدن والبلدات التي أعلنها الثوار محررة. وبعدما حرم بضعة أيام من أي ميناء نفطي فإنه ما لبث أن استعادها ولم يتوان عن قصفها وإشعال الحرائق فيها. ومع اشتداد المواجهات لا تنفك حصيلة الضحايا ترتفع في ما أصبح مؤكداً أنه سيكون صراعاً طويلاً. المهم الآن،، بعدما كثفت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تحذيراتهما من مجازر على النحو الذي حصل في كوسوفو ورواندا، ألا تستمر المماطلة في التحرك إلى ما بعد ارتكاب قوات القذافي مجازر فعلية. المهم أيضاً ألا يرضخ المجتمع الدولي للأمر الواقع الذي يمكن أن يفرضه ميزان القوى العسكرية على الأرض، فهو بوضوح ليس لمصلحة الشعب الليبي.