تدور في الوقت الراهن مناقشات محتدمة بين زعماء العالم بشأن فرض منطقة حظر طيران في ليبيا لإيقاف عجلة العنف الدامي هناك. وخلال تلك المناقشات يتم الاستشهاد بما حدث في البوسنة عندما تأخر "الناتو" قبل التدخل لحماية السكان المدنيين في منتصف التسعينيات. ويتذكر زعماء آخرون رواندا، حينما عبر كلينتون عن أسفه لعدم اتخاذه إجراءً في الوقت المناسب من أجل إنقاذ الأرواح البريئة هناك. لكن الوضع في ليبيا اليوم أقرب إلى المأساة التي حدثت في جنوب العراق في الأيام الأخيرة من حرب الخليج الثانية. فبعد أن نجحت قوات التحالف في طرد الجيش العراقي من الكويت، شجع بوش الأب الشعب العراقي على إمساك زمام أموره بيده، والإطاحة بصدام حسين. وعندما ثار الشيعة والأكراد وعرب الأهوار، كانوا يضعون في اعتبارهم أن الأميركيين سوف يحمونهم من القوة النيرانية المتفوقة لصدام. وعندما بدأت المروحيات وقوات الصفوة العراقية في حصد شعبها، صدرت الأوامر لقوات التحالف بالتوقف عن القتال، بينما وقف العالم يشاهد آلاف العراقيين وهم يذبحون. الوضع في ليبيا ليس مشابهاً تماماً. فما يحدث هذه المرة هو أن الشعب الليبي، وتأثراً بما حدث في تونس ومصر، هبّ من أجل التخلص من حكم القذافي. ومع ذلك، فنفس الهاجس تقريباً ينتابني ويذكرني بما حدث في العراق. فهنا أيضاً نرى أفراداً عاديين يخوضون حرباً ضد القوة الجوية والجيش حسن التسليح لحاكم مستبد، متوقعين أن يأتي العالم الحر لحمايتهم من المذبحة التي يتعرضون لها بسبب شجاعتهم في الثورة ضد الطغيان، والتي صفقنا لها وأيدناها بالكلمات. حتى الآن، اعتمد القذافي على القوة الجوية أساساً، لكن ما أخشاه أن يكون ذكاؤه قد هداه إلى خيارين: الأول استنزاف المعارضة الليبية حتى الموت، بدلاً من استفزاز العالم من خلال مذبحة واسعة النطاق، أو الانتظار حتى يتأكد من أن العالم ليس لديه الرغبة للتدخل وبعد ذلك يبدأ في قتل المدنيين بأعداد كبيرة. نحن لا نستطيع الانتظار حتى يحدث ذلك. فنحن بحاجة لاتخاذ خطوات ملموسة، بحيث نكون مستعدين لفرض منطقة حظر طيران على الفور إذا ما بدأ القذافي في استخدم قواته الجوية من أجل قتل أعداد كبيرة من المدنيين، ولذلك يتطلب الأمر البدء فوراً بجهد دبلوماسي من أجل بناء دعم واسع النطاق لمنطقة حظر الطيران. وأهم تفويض بإنشاء هذه المنطقة يجب أن يأتي من الأمم المتحدة التي يتعين أن تبدأ على الفور مناقشةً من أجل إصدار القرار الخاص بمنح هذا التفويض. وهناك عقبة تتمثل في التحفظات التي أبدتها كل من روسيا والصين، بيد أن الجميع ينبغي أن يعلم بأنه في حال فشل مجلس الأمن في منح التفويض المطلوب، فإننا معشر الراغبين في توفير الحماية للمدنيين الليبيين سوف نواجه خياراً أصعب كثيراً إذا ما تصاعدت وتيرة العنف ضدهم. ولهذا السبب يجب علينا مد نطاق جهودنا كي تتجاوز الأمم المتحدة. في هذا السياق يعد الحصول على دعم من "الناتو" والاتحاد الإفريقي أمراً مهماً. ولكي نتجنب التصور الخاص بأن "الناتو" والولايات المتحدة ينتهزان الفرصة لمهاجمة دولة إسلامية أخرى، فسنحتاج أيضاً إلى دعم من العالم العربي. وهناك علامات مشجعة على هذا الصعيد، منها أن دول مجلس التعاون الخليجي قد دعت لفرض منطقة حظر طيران في ليبيا، وأن مجلس وزراء الخارجية العرب طالب مجلس الأمن بنفس الشيء في اجتماعه أول أمس السبت. بيد أنه يجب أن يكون معروفاً للكافة، أن فرض منطقة حظر للطيران لا يمثل علاجاً لكل شيء، فهو لن يرجح كفة الميزان لصالح المعارضة، إذا ما تدهورت الأوضاع إلى حرب أهلية شاملة... غير أن الشيء المؤكد أنه سيؤدي إلى تحييد الضربات الجوية، وحماية حياة المدنيين، كما سيظل أداة في أيدينا نستخدمها إذا ما تدهور الموقف، وسيرسل إشارة للمعارضة الليبية بأنها لا تقف وحيدة. وقبل أن نصل إلى هذا القرار، يجب على المجتمع الدولي تقديم مساعدات إنسانية وإمدادات طبية للثوار في شرق ليبيا، ويجب علينا ألا نسمح بتجويعهم حتى يجدوا أنفسهم مجبرين على الاستسلام. الخيار الذي يجب استبعاده من الطاولة هو تدخل القوات البرية الأميركية، إذ ليس هناك أحد يرغب في رؤية الولايات المتحدة وهي تتورط في حرب جديدة، خصوصاً في دولة إسلامية أخرى. وكما قال أوباما، يجب ألا نحرم الشعب الليبي من ملكية نضاله من أجل الحرية، أو نمنح القذافي أداة مفيدة يتحجج بها. وربما يكون التهديد المتمثل في فرض منطقة حظر طيران كافياً في حد ذاته لمنع طياري القذافي من استخدام مروحياتهم أو طائراتهم المقاتلة لقتل شعبهم. لكن إذا لم يحدث هذا فيجب أن نكون واضحين في التعبير عن الاستعداد لقيادة العالم الحر من أجل إيقاف الذبح العبثي لليبيين من قبل رجل مصمم على الاحتفاظ بالسلطة. كما يجب أن نوضح بأن الولايات المتحدة، كما فعلت في البوسنة وكوسوفو، تتخذ موقفاً حاسماً ضد بلطجي يقتل المسلمين. جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة" واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"