كانت لحظة تونس وما تلاها لحظةً حاسمةً في التاريخ العربي الآخذ في التشكّل أمام أعيننا اليوم، أنظمة عتيّة تسقط بحراك شبابٍ متحمّسٍ وثورات شعبية واضطراب في الرؤية وضبابية في الأهداف، وهتّيفة من كل شكلٍ ولونٍ يغيرون مواقفهم كما يغيرون لباسهم. ثمة مثقفون وكتّاب فضلاً عن شارعٍ وشبابٍ أصبحت لديهم حساسية مفرطة من كلمة "غير"، فهم يغضبون حين تقول إن مصر غير تونس، وأن ليبيا غير مصر، وهم لا يريدون من يفرّق بين هذه المشاهد المختلفة، لأنّهم يبحثون عن الجامع بينها ولكلٍ منهم هدفه من هذا البحث، فمن راغبٍ في انتقال المشهد برمّته إلى بلده ومن طامحٍ لإصلاحاتٍ يعتقد أنها تأخرت ويأمل في أن يحركها هذا الانتقال إلى من يظنّ كمراقبٍ أن زاوية المشترك أكبر من زاوية المختلف. أحسب أنّه من الصحيح وجود مشتركات بين ما جرى في البلدان الثلاثة أقلّه في الروح التاريخية ولكن من الأصح أيضاً أن ثمة اختلافات تؤكّد "الغير" الذي ذكرناه أعلاه، فتونس ثورةٌ نجحت في إسقاط النظام دون كبير عناء فكانت ثورة ياسمين، ولكنّ مصر شهدت تمنّعاً من النظام وتصاعداً في المطالب وشداً وجذباً هائلين حتى رست السفينة على الشاطئ وإن إلى حين فكانت ثورة الشباب السلمية، الوضع في ليبيا مختلف تماماً، فالتوصيف الدقيق لما يجري في ليبيا اليوم هو "الحرب الأهلية"، أو بمعنى أدقّ هو صراع مسلّح بين أجنحة النظام لا أقول السابق لأنه لم يزل قائماً، فقادة الجبهتين سياسياً وعسكرياً كلّهم من أعمدة النظام السابق، الوضع في طرابلس واضح فلم يزل القذّافي وأبناؤه وموالوه يديرون المعركة، وهو في بنغازي مثله في طرابلس فسياسياً يقود المجلس الانتقالي وزير سابق في نظام القذّافي، وعسكرياً يقود الجبهة قادة من رموز النظام كعبدالفتاح يونس ورفاقه. والكلّ هناك يحمل سلاحه واللغة متشددة وعدائية ولا مكان للسلمية فضلاً عن الياسمين. قد يجادل البعض بأن هذا وضع فرضه نظام القذّافي وهذا صحيح ولكنّ تحية النظام الدموية ردّها الثوّار بمثلها أو بأقوى منها، مع الاعتراف بوجود أصواتٍ عاقلةٍ أغلبها في الخارج تعبّر عن ثقافة مدنية وتصوّرٍ سياسي أفادها فيه طول باعها في معارضة النظام وتجاربها التي تراكمت في دول العالم، كما يوجد داخل ليبيا دون شكٍ غضب متراكم لدى الشعب، وشباب متحمّس للثورة مع بعض بقايا جماعاتٍ إسلامية. أمر آخر، وهو أنّه في مقابل رفض كلمة "غير" يمكن رصد ما يشبه الإجماع على كلمة أخرى وترويج كبير لها وهي كلمة "الآن" أو "فوراً" التي أصبحت على كل لسانٍ من شوارع تونس إلى ميدان تحرير القاهرة إلى واشنطن، إلى كثيرٍ من الكتابات والبيانات والمطالبات في شتى أنحاء العالم العربي، فالكل يريد تغيير النظام الآن، وتغيير الدستور الآن، وبناء دولة المؤسسات الآن، وتحقيق العدالة والحرية والمساواة فوراً، وانتخابات نزيهة فوراً، وإلغاء الفساد فوراً، والتحوّل في أنظمة الحكم الآن، وغاب تحت ظل "الآن" و "فوراً" أي وعيٍ بالمعطيات والإمكانات والقدرات، لا بل غاب ما هو أهمّ، غاب الوعي بالتاريخ والجغرافيا جملةً. غير أنّه من الطبيعي في لحظات طغيان الأحلام الوردية الثورية أن تنتفي الفروقات بين قيمة وقدرة التاريخ على التغيير وبين رفع يافطةٍ تطالب بذلك، الأمران في خضم هذه الأحلام سواء، وتنفيذهما يجب أن يستغرق نفس الوقت وذات الجهد لا أقل ولا أكثر! حسب متابعتي فإن المشهد أثناء الثورات يكون غائماً وغير قابلٍ للفهم والتفسير، من قبل المتابعين والمراقبين والمفكرين فضلاً عن السياسيين وأصحاب القرار، هكذا حدث في الثورات الفرنسية وفي ثورات أوروبا الشرقية ونحوهما، وهكذا هو فيما يجري اليوم في المنطقة العربية، فلا أحد يدّعي تنبؤاً سابقاً لما حدث ولا فهماً دقيقاً لما يحدث وتهيم التحليلات في الواقع والمستقبل ترسم أحلاماً أو تنبئ عن آمالٍ أو توحي بتشاؤمٍ ولكنّها جميعاً تقارب المشهد دون أن تستحوذ عليه. يستثنى من هذا قلةٌ قليلةٌ خرجت في القنوات الفضائية وفي بعض الصحف تؤكّد أنّها توقّعت ما جرى من ثوراتٍ، وتنبأت به قبل حدوثه، منهم رجال دينٍ ومثقفون ممن يمكن تسميتهم بأصحاب "الرأي الدبري" عند العربي والمقصود به من يأتي بعد انتهاء الأحداث ليقول إنه عرف مآلها قبل أن تبدأ. في المنطقة العربية عموماً هناك تأخر في إصلاحاتٍ مستحقةٍ كان يجب أن تجري قبل هذه الأحداث، وهذا محل إجماعٍ من السلطة قبل المعارضة، من الحاكم قبل المحكوم، ولكن الانخراط في سوق المزايدات والصراخ خلف الشعارات ورفع زخم المطالبات في هكذا ظروف ربما قرأ فيه البعض رائحة الاستغلال بخاصةٍ من المتلوّنين الذين يلبسون لكل حالةٍ لبوسها. رأينا في تونس ومصر وليبيا كيف أنّ بعض الفاسدين يعلنون الثورة على الفساد، وبعض أركان السلطة يتحمّسون للثورة ضدّ السلطة التي كانوا بعض أعمدتها، وقل مثل هذا في المناضلين بالمجّان من خارج هذه الدول، حيث المواقف بلا حسيبٍ والآراء بلا رقيبٍ، فيسعون لحصد أكبر المصالح وإذا انتهت الأزمة عادوا إلى سابق عهدهم، وكأن شيئاً لم يكن. ثمة أمثلة لهؤلاء المتلوّنين غير ما سبق، مثقفين ودعاة وإعلاميين، فمن المثقفين نجد مثالاً صارخاً في مواقف عزمي بشارة فبعد أن كان يمدح النظام الليبي ويزور القذّافي في دياره ويتفيأ ظلاله انقلب اليوم ليطرح نفسه منظّراً أساسياً للثورة ضدّ القذّافي. من الدعاة نجد مثالاً صارخاً لدى سلمان العودة الذي مدح في تونس محمد صخر الماطري الذي كان أغلب الغضب التونسي حين الثورة ينصب عليه لا على الرئيس، وذلك في مقابلته في برنامج إضاءات وجاء فيها عن الماطري ما نصه: "بالمناسبة إذاعة الزيتونة وجدت أنه اللي يملكها هو شاب في مقتبل العمر يمكن دون الثلاثين أعتقد أن اسمه محمد صخر الماطري، هو زوج بنت الرئيس وسمعت أن الرجل وزوجته في الجملة على خير، وصراحةً أنا كتبت له خطاباً وأهديته بعض كتبي وطلبت لقاءه". ليس هذا فحسب، بل إن العودة قد أثنى ثناء عاطراً على سيف الإسلام القذافي في برنامجه الحياة كلمة وقال عنه: "كان هناك لقاء مع المهندس سيف الإسلام القذّافي، وهذا الرجل وإن لم يكن له منصب رسمي لكن له منصب أدبي كبير، وهناك توافق جيد عليه من كافة الأطياف والطوائف، وهناك بصمات حقيقيةً تحمد له ويشكر عليها، وبصمات جميلة في موضوع التنمية، وفيه روح استيعابية جميلة" ثم بعد أحداث ليبيا أشار العودة إلى اتصالات بينه وبين سيف الإسلام ما يعني معرفةً شخصيةً واتصالات مباشرة، ولكنّ العودة قلب للماطري وسيف الإسلام ظهر المجنّ وركب الأحداث وزايد على الآخرين. أما بعض الإعلاميين فقد تقافزوا برشاقةٍ لا يحسنها المثقّف ولا الداعية، وحافظ الميرازي مجرد مثالٍ.