من النتائج الأولى للثورتين التونسية والمصرية الترخيص لأول مرة في تاريخ البلدين لأحزاب إسلامية ، كانت مقصية من دائرة الشرعية السياسية. وفي الوقت الذي كان يعتقد دوماً أن جماعة "الإخوان المسلمين" المصرية و"حركة النهضة" التونسية تمثلان أهم طرفي معارضة في البلدين، فان الانطباع الذي ساد خلال أحداث الثورتين هو أنهما لم تقودا حركية التغيير وإنما انضمتا إليها كغيرهما من التشكيلات السياسية. ومع أن حضور التنظيمات الإسلامية في الحراك السياسي ليس بالجديد في الساحات العربية، باعتبار وجود أحزاب ممثلة في البرلمان في بعض البلدان (الأردن والمغرب واليمن..)،إلا أن الظروف التي حدثت فيها التحولات الأخيرة وطبيعة البلدين وأهميتهما في النظام العربي من العوامل التي تقتضي إمعان النظر في تأثير المعطى السياسي الإسلامي في مستقبل التجارب الديمقراطية الناشئة. والواقع أن النقاش الفكري احتدم بقوة في الأيام الأخيرة في الموضوع، في اتجاهين بارزين: يتعلق أولهما بقدرة التنظيمات الإسلامية على التأقلم مع الديناميكية الديمقراطية القائمة على الحرية غير المقيدة، ويتعلق ثانيهما بمدى قابلية استنبات القيم والنظم الديمقراطية في أرضية ثقافية وقيمية لا تزال تطبعها التصورات والتمثلات الدينية. في هذا السياق، نشير إلى دراسة منشورة بالفرنسية للمفكر التونسي "عياض بن عاشور"(حفيد العلامة الطاهر بن عاشور) الذي اختير بعد نجاح الثورة رئيساً للجنة الإصلاح السياسي بعنوان "النشاط السياسي بين الديمقراطيين والثيوقراطيين" . يرى "بن عاشور" أن معضلة الديمقراطية العربية تكمن في عدم تناسب السقف القيمي والنظري للديمقراطية مع ما يسميه "المخزون الإسلامي في المجتمع"، الذي يفرض على الفاعلين السياسيين صفقات استراتيجية هشة للتكيف من جهة مع هذا المخزون ومن جهة ثانية مع الضغوط الداخلية والخارجية للتحول الديمقراطي. فبالنسبة له ثمة أنماط من الديمقراطيين (بالاقتناع وبالتكتيك وبالاضطرار) تقابلها أصناف ثلاثة من الثيوقراطيين (العادي السلبي والمناضل الفاعل والراديكالي العنيف). الثيوقراطي بالنسبة لبن عاشور هو الذي يرى ضرورة إخضاع "المدينة الأرضية" لأحكام وأخلاقيات وقوانين الشريعة عن طريق الدولة الحاكمة بالنص. ومن هنا لا سبيل للمواءمة بين الثيوقراطي والديمقراطي الحقيقي المقتنع بقيم الحرية والتعددية، فالتقاؤهما لا يكون إلا تكتيكيا مؤقتا. أما خصخصة الوعي الديني فلا يزال بالنسبة لبن عاشور خياراً هامشياً في المجال الإسلامي. لا شك أن "بن عاشور" يطرح هنا إشكالات محورية، يجب تناولها خارج السجال الإيديولوجي المحموم المتفجر في الساحات الثورية التي تشهد مصاعب وأحلام الانتقال الديمقراطي بعد عقود طويلة من الاستبداد والقمع. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن بن عاشور ينطلق من مسلمتين بارزتين: أولاهما:العلاقة العضوية بين الديمقراطية التعددية كشكل من إدارة الحقل السياسي والقيم العلمانية في فصلها بين دائرة الانتماء الديني والمجال العمومي. ومن ثم لا معنى لاختزال الديمقراطية في مسطرتها الإجرائية التنظيمية. ثانيتهما:إن عوائق التحول الديمقراطي في المجتمعات الإسلامية لا تنحصر في العوامل السياسية، وإنما ترجع في منطقها العميق إلى المنظور القيمي، مما يلمح إليه في الاقتران الوثيق داخل الإسلام بين الجوانب العقدية والتعبدية والتشريعية. ومن ثم لا بد من خلخلة هذه البنية اللاهوتية – القانونية ثمنا للانتقال نحو العقل الديمقراطي النسبي التعددي. ولنشر إلى أن المسلمتين حاضرتان بقوة في الأدبيات السيارة، وقد برزتا بقوة في التحليلات التي واكبت الثورات العربية الراهنة، على الرغم من أن "المشكل الإسلامي" لم يطرح لا نظرياً ولا عملياً في الانتفاضات الديمقراطية الأخيرة. وقد اعتبر الباحث الفرنسي "أوليفيه روا" في مقال بعنوان "الثورة ما بعد الإسلامية"(لوموند في 12 فبراير ) إلى أن ما نشهده حاليًا هو تشتت المرجعية الإسلامية وعجز التيارات الرافعة للشعار الإسلامي عن احتكار المشروعية الإسلامية، على الرغم من السمة الدينية الغالبة على المجتمع. وتعني هذه المؤشرات أن المجتمعات المسلمة أصبحت تعيش عملياً وواقعيا مسار الفصل بين العقدي الذاتي والعمومي المشترك، الذي هو أحد محددات الحداثة، دون الحاجة الى دفع الاستتباعات النظرية والتأويلية التي تشغل الفلاسفة ودعاة الإصلاح الديني. فالبضاعة الإسلامية نفسها أصبحت شديدة التنوع، والسلطة التأويلية للنص لم تعد قائمة، ومسارات التدين غدت كثيرة متعددة وغير محصورة في النمط السياسي. بيد إنما يتعين التنبيه إليه بخصوص المسلمتين المذكورتين، هو أن "بن عاشور" يدخل في متاهة نظرية وأيديولوجية معقدة برفضه المقاربة الإجرائية للديمقراطية في الوقت الذي يرفض نفاذ الدين للمجال العمومي باسم النسبية القيمية، التي لا معنى لها خارج مفهوم إجرائي محايد للنظم الديمقراطية. ففضلًا عن أوجه الاعتراض الممكنة حول قراءته للأرثوذوكسية الإسلامية بصفتها تقوم على مركزية التشريع في بنية الدين (هل يتعلق الأمر فعلًا بقوانين بالمعنى الحديث أو بموجهات قيمية وصيغ تعبيرية تأخذ شكل أحكام؟)، فإن بن عاشور لا يقف عند الفرق الجوهري بين مجرد الفصل بين دائرة الاعتقاد الديني والمجال العمومي من جهة ومن جهة أخرى الموقف الأيديولوجي المبني على هذا الفصل الذي أخذ في فرنسا شكل اللائكية المعادية للدين في حين أخذ في ساحات أخرى أشكالاً تصالحية واستيعابية متعددة ومتنوعة. بل إن الفكر الاجتماعي الغربي بدا يراجع بقوة في السنوات الأخيرة مبدأ الفصل الجذري بين العقدي الفردي والمجال العمومي في المجتمعات التي أطلق عليها "هابرماس" عبارة "المجتمعات ما بعد العلمانية". فهذه المجتمعات فرضت على الديانات إصلاحات جوهرية في مقوماتها اللاهوتية والقيمية، وأصبح من حقها في المقابل أن تعود للمجال العمومي من أجل الإسهام في مناقشة التصورات الجوهرية للخير الجماعي، التي غدت فقيرة نحيلة بعد نضوب عصر الأيديولوجيات. فلا معنى للفصل بين وعي المواطن الفردي وانتمائه للدائرة الجماعية المشتركة، ولا خطر من الوصل بين المجالين ما دامت التعددية العقدية والقيمية أصبحت واقعاً لا سبيل لتجاوزه. وذلك هو الدرس الذي أثبتته الثورات العربية الأخيرة.