وصف ومعرفة معنى الديكتاتورية والديكتاتور في غاية البساطة ولا يحتاج المرء إلا إلى قليل خبرة وعدة دقائق لمعرفة هذا وذاك إن كان من خلال قراءة التاريخ أو استعراض الحاضر ومعرفة أسماء الطغاة وماذا عملت أيديهم من كوارث في حق الإنسانية؟ إلى جانب الدماء التي تسيل حسب أمر الديكتاتور وخسائر الأرواح التي تكون في أغلب الأحوال بدون سبب؟ كدخوله الحروب مع الجيران أو مع الداخل؟ هناك متلازمة أخرى تترافق مع أسماء المرعبين: كل شيء في الاقتصاد -تقريباً- يتوقف، والتنمية تنام مثل أهل الكهف، فهذا الـمُتجبر بعيدٌ عن ضروريات الارتقاء بمستوى أمته اقتصاديّاً، فهو لا يرى إلا نفسه وأمنه، وما بقي ليس ضروريّاً في رأيه، هكذا يقول التاريخ ويقول الحاضر. ولكن ماذا عن الثوار الذين يقلبون الطاولة في وجه الطغاة ويهدمون بيوت الرمال تلك؟ ماذا لو تحولت مطالبهم التي لن تتوقف ولن تعرف سقوفها حتى لأشد عقلاء الانتفاضات والثورات درايةً بها؟ هل يعود من أسقط أنظمة وأزال عقوداً من التحكم إلى بيته ليرعى أسرته ويذهب لعمله ويلعب الطاولة مع أصدقائه في مقهى، كما كان يعمل ويفعل أكثر الناس في تلك البلدان؟ الأكيد أنه لن يعود إنساناً طبيعيّاً كما كان حتى وكل ما كان يطالبه به -بل وأكثر- قد تحقق، عندها تقع الأمة في قبضة أخرى هي قبضة الشارع ومن يدير الشارع أو يُديره الشارع، وتتوالد الاحتجاجات والاعتصامات والمظاهرات السياسية والفئوية والضد في مواجهة الضد، فتقع البلاد في قبضة الشلل السياسي والاقتصادي ويختفي الأمن الاجتماعي، ويتوارى خوفاً وهلعاً العقلاء والنخب السياسية والاقتصادية والثقافية، لئلا يُصدموا بالمزاج الشعبي الملتهب... أو بمن يحرك هذا المزاج. في بداية تسعينيات القرن العشرين المنصرم، تقاطرت الحشود الألمانية على حائط برلين، لتسقط حجارته بواسطة المعاول والبلدوزرات ثم احتفلت ليلتها بسقوط رمز النظام الشيوعي في أوروبا الشرقية... بل في العالم. وفي اليوم الثاني لهذا الحدث العالمي المجلجل والمفصلي اختفت الجموع وعادت إلى بيوتها وأعمالها، وتركت السياسيين يعملون على إصلاح ما أفسدته عقود الشيوعية في ألمانيا الشرقية، ولم نسمع عن حرائق في مراكز الشرطة ولا في المحاكم ولا حتى في مقرات الشرطة السرية الألمانية الشرقية، تُرك كل ذلك للسياسيين والحقوقيين والعدالة وللرغبة الملحة في التصالح مع التاريخ بصورة عامة مع بعض الاستثناءات القليلة، الأمر الذي أدى إلى سلاسة في انضمام قسم شرقي متخلف بوليسي إلى غربٍ ألماني متقدم حضاري ديمقراطي. والأمر كذلك عند انفصال دولتي التشيك وسلوفاكيا، ولم يفطن العالم إلى هذا الحدث التاريخي إلا بعد أيام من إجراء الانفصال الذي أزال دولة تشيكوسلوفاكيا من الخريطة نهائيّاً. وفي المقابل انظروا ماذا حدث في بعض البلدان المجاورة للدول العربية عند تغيير أنظمتها قبل عقود، وفي داخل الدول العربية في الخمسينيات من القرن الماضي، وفي أوائل هذه السنة من قرننا الحالي وما يمكن أن يحدث في بلدان تنطق بالعربية بعد أسبوع أو شهر أو سنة؟ أشفق كثيراً على رؤساء وزراء الدول العربية التي حدث فيها تغيير كبير في الأسابيع الماضية، أنهم يطالبون إلى حد الاستعطاف جماهير شعبهم بأن تعود لأعمالها، وأن يعود الناس إلى متاجرهم وقاعات دراستهم وبنوكهم وبورصاتهم؛ يقولون هذا لأنهم يعلمون علم اليقين، وحسب ما بين أيديهم من معطيات، أن اقتصادهم يكاد يصل لحالة الشلل التام، والسياحة والتصدير يكادان لا يوفران دخلاً قوميّاً، والبطالة في ازدياد جراء ما تقذفه الجامعات لسوق العمل وجراء الآلاف الذين أقفلت أعمالهم بسبب ما يحدث في الشوارع. إن أكبر تأثير سلبي تحدثه ديكتاتورية الشارع هو ذاك الفعل المُمنهج حسب آراء البعض والعبثي حسب آراء أخرى لإسقاط الدولة كفكرة ترمز للسيادة والوحدة وللقدرة على حفظ الأمن وسلامة الأمة، وتعزيز مقدرتها على التنمية المتقدمة وإدارة الأزمات المختلفة، دون الالتفات للأسماء القيادية التي قد تأتي وتذهب حسب تعاريف الزمن وإرادة الأمم. ماذا يعني إن قام الشارع بمهمة حفظ الأمن وتسيير المرور ومراقبة الأسواق بدلاً من الشُرطة ورجال المرور والبلديات؟ ماذا يعني أن يُسقط الشارع في كل يوم رئيس وزراء ومديري بنوك وقياديين في البورصة وتكنوقراط الدولة لأن هذا وذاك قد صافح وتعامل مع رئيس الدولة المتنحي أو المخلوع سابقاً عندما كان يمثل الشعب والدولة؟ ستبقى هذه الدولة أو تلك في هذه الحالة دون خبراء ودون متخصصين في كل شؤون الحياة إلا إن كانت لدى جماهير الشارع خطط لاستبدال العامة وساكني العشوائيات ومستخدمي العالم الإلكتروني الافتراضي بديلاً عن أصحاب الياقات البيضاء! عندما ثار في الثلث الأخير من ستينيات القرن الماضي شباب فرنسا على بعض إجراءات الجنرال "ديغول" تنحى الرئيس الفرنسي عن منصبة احتجاجاً على المظاهرات وأعمال الشغب في الشارع الفرنسي، وعلى ذاك التقهقر في شعبيته في أواسط الشباب الفرنسي الذي لم يعايش "ديغول" في ساحات الوغى، عندما كان رمزاً لتحرير كامل التراب الفرنسي من قبضة النازية في منتصف الأربعينيات. أحدثت استقالة الرئيس الفرنسي ضجة كبرى في فرنسا والعالم، وحسب الجميع أن جيل الشباب قد فازوا بالضربة القاضية على النظام القديم. ما حدث أن الرئيس "بومبيدو" وهو من نفس حزب "ديغول"، شغل منصب الرئاسة في فرنسا وأعطى أحد الدبلوماسيين الفرنسيين صلاحية تشكيل الوزارة، فكانت وزارة تمثل وجوه الفعاليات الفرنسية القديمة أيام "ديغول" دون أن يدخلها أحد رموز الشباب الذي كان ثائراً قبل ذلك بأيام، وسارت فرنسا بعد ذلك في نهجها الديغولي وكأن شيئاً لم يحدث! أنا لا أعرف بالتحديد كيف نجمع بين حق الناس في التظاهر السلمي في بعض الدول العربية، وبين بث الشلل الاقتصادي والاجتماعي ونسف أمن الشارع في الوقت نفسه؛ قد يكون لدى بعض الجماهير الحق في الاعتراض والتجمهر حسب قوانين هذا البلد أو ذاك في مكان معين، ولكن أن يتحرك جزء من هذا التجمهر نحو مؤسسات الدولة ومفاصل اقتصادها في محاولة لخلق حالة عجز كلي، فهنا يصبح الأمر خارج فهم المتابع، وتتحول الاحتجاجات السلمية إلى احتجاجات مسلحة وإن لم تحمل سكيناً أو مسدساً، فالنتيجة واحدة وهي إسقاط فكرة الدولة ككل. خرجت الحشود الصغيرة في لندن وباريس وفي واشنطن احتجاجاً على الغزو الأميركي للعراق، بدأت في نقطة تجمع وانتهت في نقطة انتهاء ردد فيها المتظاهرون ما حلي لهم من شعارات ضد "بلير" و"بوش" وغيرهما من الزعماء الغربيين المساندين للغزو. هل سمعتم أن الجماهير أغلقت الطرق المؤدية للبيت الأبيض ولـ"10 داونينج ستريت"؟ هل سمعتم أن المتظاهرين هاجموا بنكاً ومحكمة ومخفر شرطة يحرقون ويكسرون ويسلبون؟ لم يحدث هذا... ولن يحدث مثل ذلك. عندما يطالب زعماء الدول الغربية والمنظمات المهتمة بحقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني العالمي بأن يكفل هذا النظام العربي أو ذاك حق التظاهر السلمي في بلده، ليتهم يطالبون أيضاً بأن تكون المظاهرات في بلداننا شبيهة بما يحدث عندهم. نترقب يوماً نسمع فيه أصواتاً تقول: الشعب يريد إسقاط ديكتاتورية الشارع؟!