في العقود الأربعة الماضية، وتحديداً منذ حرب أكتوبر 1973، ظلت الرياح العربية تسير في صالح إسرائيل بهذا الشكل أو ذاك. حتى في اللحظات الحرجة التي شكلت تهديداً استراتيجيّاً مباشراً مثل تعرض تل أبيب للصواريخ العراقية في أوائل التسعينيات كانت خلاصة التطورات تخدم المصالح الإسرائيلية. ولأول مرة، منذ فترة طويلة، تشهد المنطقة العربية تحولات جذرية، وفي مصر خاصة، على الضد من إسرائيل من جهة، ولم يستطع العالم الغربي إلا الوقوف معها أو عدم مواجهتها. ولذا فإسرائيل مرتبكة وتتخبط وتدخل الآن مرحلة طويلة من التخبط، فقد انهار أهم ركن اعتمدت عليه خلال العقود الماضية في الحفاظ على تفوقها الاستراتيجي الإقليمي وهو النظام المباركي. ففي تصريح صريح، وصادم للرأي العام العربي، في العام الماضي قال بن أليعازر وزير الصناعة والتجارة الإسرائيلي آنذاك إن "مبارك كنز استراتيجي لإسرائيل". ومن وجهة نظر إسرائيل كانت مصر المُباركية تقوم بأدوار فائقة الأهمية من ناحية استراتيجية. ولا حاجة لإعادة قراءة التاريخ القريب والمعروف، ولكن هناك الكثير مما يبرر وصف بن أليعازر لمبارك بـ"الكنز الاستراتيجي لإسرائيل". ففي عهد المباركية تم منح إسرائيل أكبر مساحة زمنية وجغرافية ممكنة من الأمن الاستراتيجي والاقتصادي، وتقريباً من دون مقابل. وقد زال خطر الحرب الشاملة والتقليدية عن إسرائيل بينما تضاعف بالنسبة للعرب. ولم يتحقق السلام الموعود إلا بالنسبة لإسرائيل بينما تحققت سيناريوهات حروب واعتداءات على كل الجوار العربي تقريباً: ضرب مفاعل تموز العراقي، اجتياح لبنان عام 1982، القمع المتوحش للانتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر الثمانينيات واغتيال القيادات الفلسطينية في تونس في السنوات نفسها، وقمع الانتفاضة الثانية سنة 2000 فصاعداً، وقصف المفاعل النووي السوري سنة 2007، واجتياح غزة عام 2008. هذا عدا عن حالات عربدة سرية واستخبارية ربما لا تحصى استباحت فيها إسرائيل سيادات معظم الدول العربية، بما في ذلك مصر نفسها، عبر شبكات التجسس والتدخل الوقح في الشؤون الداخلية. اقتصاديّاً قادت سنوات "الكنز الاستراتيجي" إلى انخفاض ميزانية التسلح الإسرائيلي من حدود 30 في المئة من الناتج القومي الإسرائيلي إلى أقل من 10 في المئة، مما منح إسرائيل واقتصادها أكثر من ثلاثة عقود من النمو الاقتصادي والصعود إلى مستويات الدول المتقدمة. وكأن هذه الهبة الاستراتيجية الاقتصادية لم تكن كافية قام "الكنز الاستراتيجي" بتبرع مرعب على حساب ثروات مصر تمثل في صفقة غاز خيالية لم يكن يحلم بها أكثر الإسرائيليين طمعاً، إذ تدفق غاز مصر إلى إسرائيل بسعر بخيس أقل من سعر التكلفة العالمية، موفراً على الاقتصاد الإسرائيلي بحسب بعض التقديرات ما يقرب من 10 مليارات دولار سنويّاً (مقابل ذلك لنتذكر أنه تم رهن مصر كلها للمشيئة الأميركية مقابل أقل من ملياري دولار كمساعدة سنوية). واكتشفنا هذه الأيام فقط اللغز الذي حيَّر الجميع إزاء صفقة الغاز سيئة الصيت تلك إذ فضحت أوراق أمن الدولة السرية أن جمال وعلاء مبارك كانا يتقاضيان عمولات سنوية ضخمة من تلك الصفقة، وهما الآخران اعتبرا أيضاً جزءاً من الكنز الاستراتيجي. عمليّاً إذن اشتغلت المباركية كسياج واقٍ للدولة العبرية أتاح لها مساحات التمدد والتنفس والحركة بحرية ومن دون الخوف من أية ارتدادات عربية فردية أو جماعية لأن المباركية ستعمل على امتصاصها -كما شهدنا بوضوح بالغ في كل مراحل الحصار على غزة والحرب عليها. إن أول انعكاس للواقع العربي الجديد يتمثل في انتهاء معادلة تعامل إسرائيل مع الديكتاتوريات العربية، بل والاعتماد عليها، على حساب وعلى الضد من الرأي العام العربي. ففي العقود الأربعة الماضية شهدنا إسرائيل كدولة قائمة على الأحزاب والسياسة البرلمانية المرتكزة على الرأي العام الشعبي والانتخابي (اليهودي) تتعامل، حرباً أو سلماً، مع عدد من الأنظمة الديكتاتورية العربية التي لا تحفل بالرأي العام عندها. وانتهينا عمليّاً إلى معادلة سياسية بالغة الرثاثة والإهانة جوهرها الاهتمام المركزي، ليس فقط الإسرائيلي بل والعالمي، بتوجهات الرأي العام الإسرائيلي لكونها تؤثر في قرارات أي حكومة إسرائيلية، مقابل الإهمال والازدراء التام للرأي العام العربي، المصري والأردني المجاور، ثم ما يليهما، بكونه عديم الفعالية في قرارات أي من الأنظمة القائمة. ويكفي أن نتذكر هنا المثال الطازج في مسألة تجميد الاستيطان واحتماء نتنياهو بالرأي العام في جمهور ناخبيه اليمينيين الذين يمكن أن يسقطوا حكومته، وكيف "تفهم" العالم كله تبريراته. وفي كل مرحلة من المراحل كان الرأي العام الإسرائيلي عاملاً مهمّاً ومركزيّاً، ولم تكن هناك أهمية تُعتبر للرأي العام العربي. والسبب في ذلك أن "الكنز الاستراتيجي" في مصر و"الكنوز الاستراتيجية" في بعض البلدان العربية الأخرى كانت وما تزال تقرر في الشأن العام، الاستراتيجي والهامشي، بديكتاتورية مطلقة ومن دون أي اهتمام بما تراه شعوبها وما تريده. والانعكاس الثاني سيتمثل في تشدد الخيارات العربية الفردية والجماعية تجاه إسرائيل. والفسحة الزمنية والاستراتيجية طويلة الأمد التي تمكنت خلالها إسرائيل من فرض رؤيتها وتحديد العناصر الأساسية في التعامل معها إقليميّاً انتهت الآن. فمصر المباركية انتهت ومكانها سنرى مصر الأردوغانية ذات السياسة الخارجية الوطنية إزاء إسرائيل. والانعكاس الثالث يتمثل في سقوط الخرافة الإسرائيلية في تصوير وتسويق إسرائيل بزعم كونها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، التي اشتغلت عليها الدعاية الصهيونية في العقود الماضية ونجحت إلى حد كبير. وعندما كان يُساق مثالا لبنان وتركيا بكونهما ديمقراطيتين شرق أوسطيتين تكسران حصرية ذلك الوصف على إسرائيل كان المتحدث يلقى قليلًا من الإنصات، ذلك أن المقولات القاطعة والحصرية أوقع على السمع وأكثر جذابية. والانعكاس الرابع، وليس الأخير، مرتبط بما سبقه ارتباطاً وثيقاً ويتمحور حول السؤال شبه الوجودي الذي يواجه إسرائيل الآن، ويطرحه سياسيون ومفكرون إسرائيليون كثر، ومفاده: هل وجود إسرائيل مشروط بوجود ديكتاتوريات عربية وغياب أي إرادة حرة للشعوب، بحيث تعمل تلك الديكتاتوريات كحاجز حماية بين إسرائيل والشعوب العربية عامة؟ مرة أخرى ما شهده تاريخ المنطقة في نصف القرن الماضي فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي ومآلاته الراهنة يشير إلى تلك الخلاصة. وهي أن العلاقة بين "عملية السلام" والديمقراطية في المنطقة العربية علاقة معقدة، بما يعني التضحية بالثانية إن أريد للأولى أن تتمخض عن معاهدات سلام مع الدول العربية. وفي الوقت الذي كانت فيه تمر تلك المعاهدات، مثلاً مع مصر والأردن، على "الكنيست" الإسرائيلي ليوافق عليها ويصادق على ما فيها، فإن أية آلية مناظرة في الجانب العربي كانت دائماً غائبة، وغيابها مطلوب أيضاً. وينطبق ذلك على العلاقات الاقتصادية والمكاتب التجارية التي فتحت في بعض العواصم العربية والعلاقات الرسمية وافتتاح سفارة في موريتانيا. وكل ذلك كان يتم وفق معادلة المحافظة على نظام إقليمي عام حجر الزاوية فيه الاستبداد الذي يفرض على الرأي العام أية سياسة أو توجه أو سلام أو غيره مع إسرائيل. ونعلم أيضاً أن معظم العلاقات مع إسرائيل، سياسيها وتجاريها، كان يقع في جوهر عملية مقايضة معقدة مع الولايات المتحدة، أو بالأحرى رشوة هذه الأخيرة عن طريق التقرب من إسرائيل لأن الطريق إلى واشنطن يمر بتل آبيب، وبهدف تحقيق أهداف أو دعم لهذا النظام أو ذاك. وليس ثمة زعم بأن الانعكاسات المذكورة أعلاه كاملة أو حصرية، بل هي فقط ما تتيحه هذه المساحة.