عقب اغتيال حاكم ولاية البنجاب، سلمان تيسير، في شهر يناير الماضي، صمت معظم الساسة الليبراليين الباكستانيين فجأة وامتنعوا عن التعليق أو إبداء آرائهم في مثل هذه الأمور الحساسة. وكان السيد تيسير قد لقي حتفه بطلقة نارية أطلقها عليه حارسه الشخصي، عقاباً له على مطالبته بتخفيف بعض القوانين الباكستانية المتشددة والمقيدة للحريات. وفي المقابل فقد رحبت الجماعات المتطرفة كثيراً بالقاتل وأثنت على فعلته، وصوّرته على أنه بطل شعبي. ومن بين جميع الساسة الباكستانيين لم يستمر سوى رجل واحد في الجهر برأيه المعارض للتشدد والتطرف، على رغم علمه بخطورة الحديث في مثل هذه الأمور، ألا وهو وزير الأقليات الباكستاني، شاهباز بهاتي، الذي كان المسيحي الوحيد في تشكيل الحكومة الباكستانية. فقد استمر هذا الوزير في التعبير الصريح عن رأيه المطالب بتغيير القوانين التي تجيز الحكم بالإعدام على كل من ينتقد الإسلام. وقد طبقت نصوص هذا التشريع مؤخراً بإصدار حكم بالإعدام على السيدة آسيا بابي المسيحية. وقد ازداد وعي الباكستانيين باستخدام السلطات لهذا القانون لقهر المواطنين وقمع معارضتهم للنظام. وقد كان شاهباز بهاتي، البالغ من العمر 42 عاماً، أحد الذين دفعوا غالياً ثمن آرائهم الليبرالية، وكثيراً ما كان يتلقى تهديدات بالقتل بسبب مطالبته بإصلاح القوانين القمعية السارية. ولم يسمح هذا السياسي الهادئ الطباع، الذي كان يتمتع بقدر كبير من الحب والاحترام في أوساط المعتدلين الباكستانيين، لتهديدات المتطرفين أن تخرس لسانه. وكم كان باهظاً الثمن الذي دفعه لقاء دفاعه الشجاع عن حرية التعبير في وجه المتشددين! فقد لقي حتفه رمياً بالرصاص في كمين وحشي نصبته لسيارته زمرة من قتلة "طالبان"، وسط العاصمة إسلام آباد في وضح النهار. وبالإضافة إلى ذلك، قد تنبأ الكثيرون بهذه النهاية الفاجعة، بمن فيهم القتيل نفسه. وقبل يوم واحد من مصرعه، كشف "بهاتي" لهيئة الإذاعة البريطانية التي أجرت لقاءً معه عن وجود مؤامرة إرهابية لاغتياله. وقال في اللقاء نفسه على الرغم من علمه بهذه المؤامرة: "ولكن من الذي سيجهر برأيه في وجه هؤلاء القتلة فيما لو تراجعت وانحنيت لتهديداتهم؟ إنني على علم باحتمال اغتيالي في أي وقت، ولكني أود أن أخلّد نفسي في التاريخ باعتباري رجلاً شجاعاً". وفي تعليقات وزير الأقليات الباكستاني هذه، مؤشرات على وجود أخطار جمة في الواقع السياسي الباكستاني الراهن. فقد اختلطت حالة انعدام التسامح الديني بأوراق نقص المبادرة أو الرغبة لدى السلطات في حماية الليبراليين. ذلك أن الوزير القتيل، كان بين قلة متضائلة من المعتدلين الذين يحاولون الدفع بالأجندة الليبرالية، والحؤول دون اختطاف المتطرفين والمتشددين لباكستان بأسرها. ومما لا ريب فيه أن تزايد ضيق المتطرفين من الذين يجرؤون على الجهر بآرائهم، يعد أكبر خطر يواجهه المجتمع الباكستاني اليوم. وإذا أضفنا إلى كذلك، تنامي وسعة انتشار الجماعات المتطرفة في مختلف أنحاء باكستان، مصحوبة بتنفيذ هذه الجماعات للهجمات الإرهابية بمعدل يومي في شوارع لاهور وإسلام آباد، فإنه لا بد من القول بأن المستقبل الباكستاني قد بات في خطر عظيم، لكونه مثيراً للذعر. كما يشير تنامي ظاهرة انعدام التسامح الديني إلى تزايد سيطرة الجماعات المتطرفة وإمساكها بزمام الأمور في باكستان. فعلى الرغم من أن حكومة إسلام آباد تعتبر حكومة منتخبة ديمقراطياً، فإن الواقع العملي يشير إلى انزلاق باكستان تدريجياً ووقوعها فريسة بيد المتطرفين الدينيين. وفي ذلك خطر عظيم دون شك. ففي الماضي، كانت الجماعات المتطرفة هذه، تواجه كل من يرتفع صوته بالتعبير عن آراء أو وجهات نظر تقدمية، بالانتقادات الحادة اللاذعة. ولكن المشكلة أن تلك الانتقادات قد ترجمت في ظل المناخ السياسي السائد حالياً إلى قتل وعنف واغتيالات. والحقيقة أن صعود موجة عدم التسامح الديني قد بدأ منذ عهد الرئيس الأسبق ضياء الحق، في أواخر سبعينيات القرن الماضي. فقد دشن الجنرال ضياء الحق حملة أسلمة واسعة في بلاده، بتشريعه لما يعرف بـ"نظام المصطفى". وكانت تلك التشريعات الجديدة التي تبناها ضياء الحق، تجافي كثيراً التشريعات المعمول بها في المحاكم الباكستانية وفقاً للدستور الذي نشأت عليه دولة باكستان. وفيما يبدو فإن بذرة التطرف تلك التي بذرها ضياء الحق، قد أثمرت زقوماً وعلقماً مريرين الآن. هذا ولم يواجه اغتيال "بهاتي" بإدانة دولية واسعة فحسب، بل لقي استنكاراً حاداً من قبل المعتدلين الباكستانيين أنفسهم. وفي هذا أمل في استمرار وجود من لا يزالون قادرين على الجهر بأصواتهم في وجه هذا الجنون الذي يمارسه "الطالبانيون" وأشباههم من المتطرفين الإسلاميين. فقد وصف العلامة محمد طاهر أشرفي -رئيس مجلس العلماء الباكستاني- وكذلك المفتي السابق محمد نعيم، وهو شخصية دينية ذات سمعة عالمية، اغتيال الوزير السابق "بهاتي" بأنه مؤامرة، وأكد كلاهما على ضرورة تبني تدابير وإجراءات تكفل نشر قيم التسامح الديني في المجتمع الباكستاني. وعلى الرغم من إدانة الحكومة الباكستانية لجريمة اغتيال وزير الأقليات، مثلما فعلت بإدانتها السابقة لاغتيال حاكم ولاية البنجاب، فإن من الواجب مراقبة الأفعال والممارسات والإجراءات العملية التي تتخذها إسلام أباد، باتجاه ترجمة إدانتها للعنف والاغتيالات إلى تدابير عملية تضمن استعادة التسامح الديني في باكستان، وتوفر الحماية اللازمة للمعتدلين والليبراليين من تهديدات المتطرفين وأفعالهم. ذلك أن حكومة إسلام آباد حكومة منتخبة ديمقراطياً، ويتعين عليها اتخاذ الخطوات والتدابير اللازمة لحماية الأصوات الباكستانية المعتدلة، فضلاً عن ضمان عدم إخراس هذه الأصوات بقوة الرصاص والبنادق، في وقت ارتفعت فيه موجة التطرف وعدم التسامح الديني. د. ذِكْرُ الرحمن رئيس معهد الدراسات الإسلامية- نيودلهي