إسرائيل ومنذ اللحظة الأولى للتحرك الشعبي في تونس بدأت تروّج لنظرية أن ما يجري ليس له علاقة بالصراع العربي - الإسرائيلي كما كان "يدعي" بعض القادة العرب، أو المثقفون أو المناضلون المجاهدون. وكرسّت هذه النظرية في سياستها ومواقفها إثر سقوط بن علي وانتقال الأحداث إلى كل من مصر وسقوط نظامها ورموزه، وإلى اليمن ثم إلى ليبيا والبحرين وكل مكان. وفي اليمن حاول الرئيس علي عبدالله صالح معاكسة هذه النظرية والقول إن ما يجري في بلاده يدار من غرفة عمليات مركزية في أميركا وتوجه كل ذلك إسرائيل ثم ما لبث إن اعتذر من الأميركيين! وإسرائيل، أرادت من خلال هذه النظرية الإيحاء بأن الغضب على الأنظمة لا علاقة له بسياساتها. واستغلت في هذا الاتجاه التحركات التي خلت من شعارات قومية أو من إشارات إلى الممارسات الإسرائيلية والسياسات الأميركية. وهي ظاهرة لافتة لكن سببها هو تقدم أولوية لقمة العيش ومسألة الحرية في التعبير عن الرأي على الموضوع الإسرائيلي دون أن يعني ذلك موافقة شعوب المنطقة على الممارسات والسياسات المذكورة. لا شك أن في ذلك أمراً مؤلماً بعد 60 عاماً من الصراع مع إسرائيل، لكن ذلك لا يعطي دولة الإرهاب هذه أي شرعية أو صك براءة عما فعلته وتفعله وهو راسخ في وجدان الشباب العربي. وفي ليبيا حاول العقيد القذافي وللبقاء في سدّة الحكم والى جانب استخدامه كل وسائل العنف والقتل ضد أبناء بلده - "الفئران والجرذان" -أن يتودد إلى الغرب ويستجدي دعمهم وسرعة تحركهم لإنقاذه. حاول القول: إن "القاعدة" هي التي تقوم بأعمال العنف في ليبيا، وإنها إذا انتصرت سوف تهز الوضع في أوروبا والمنطقة ليصل إلى إسرائيل! هذا المنطق أيضاً يعزز المنطق الإسرائيلي المستند إلى النظرية التي أشرنا إليها ولكن في الوقت ذاته لا يسقط وطنية الشعب الليبي ومشاعره، وقد رأيناها واضحة وهو شعب فقير يكافح ويقاتل في العراء، وتحت سقف الطائرات الحربية والمدفعية الثقيلة التي تستهدفه. وإسرائيل تنبّهت إلى خطر تفجير أنبوب الغاز الذي يصلها من مصر. وثمة من قال إن عناصر مخابراتية إسرائيلية يقفون وراء هذه العملية - لا أدري والاحتمال قائم - ولكنها استغلت هذا الأمر، لتبحث عن مصادر أخرى، وتبدأ عملية قرصنة واعتداء على المياه الإقليمية اللبنانية لاستخراج الغاز والنفط منها، ونحن لم نرسم حدودنا بعد هناك، بل يبدو المشهد خطيراً في بلادنا ونحن نرسّم الحدود للأسف بين الطوائف والمذاهب وأبناء الشعب الواحد ونبث كل مواد الحقد والسموم والتحريض والتعبئة ضد بعضنا البعض ولم نتعلم، ونصرخ في الوقت ذاته من الغلاء وارتفاع أسعار المحروقات بعد أن أعلنا عن اكتشاف كميات كبيرة من النفط والغاز في مياهنا ربما تكون كافية للخروج من أزمتنا المالية على مدى زمن معين وفي سياق خطة مدروسة إذا أدركنا وعرفنا كيف ننفذها لكننا للأسف لا نفعل ذلك. إسرائيل تهدّد وتتوعد وتستنفر العالم من أجل أمنها واستقرارها وتكريس احتلالها وسرقة مواردنا. ونحن نهدد بعضنا البعض داخل دولنا وأحياناً بين دولنا! في لبنان، نرى المخاطر، نحاضر فيها، نحذر منها، نتهم بعضنا بعضاً بافتعالها أو بالرهان عليها لكننا لا نفعل شيئاً حدياً لدرئها. نحن لم نتمكن من تشكيل حكومة. لا حكومة وحدة وطنية ولو في الشكل ولا حكومة فريق سياسي من عناصر قادرين يتمتعون بالرؤيا والوضوح والقدرة على تحمل المسؤولية وبالصدقية في ممارستها! وقد ذهب ممثل الأمين العام للأمم المتحدة "مايكل وليامز" إلى حد تحذيرنا بالقول: إذا لم تشكل حكومة خلال وقت سريع قد يقع شيء خطير. قد يحصل حادث مريع في البلاد! هذا كلام خطير من هذا الموقع الكبير. ولا شك أن لدى الرجل مخاوف مبنية على معطيات. فالوضع في الجنوب، هادىء اليوم، لكن الاحتقان قائم لأن الاحتلال جاثم على الأرض حتى الآن وإسرائيل لا تطبق القرار 1701 بل تستمر في احتلالها واعتداءاتها اليومية واستباحتها للأرض والجو والمياه. ونحن مقسّمون! وربما كان "وليامز" يتحدث عن حدث داخلي وعودة مسلسل التوتر، وربما الاغتيالات في لبنان في ظل الاحتقان الذي بلغ ذروته في الحديث عن السلاح واستخدامه وعن التلازم بين شعاري "المحكمة والسلاح"، وتوجيه الاتهام من خلالهما إلى فريق في لبنان، بل إلى طائفة معنية في واقع الحال! كل هذا يجري، والفقر يزداد والخطر منه يزداد. منذ أيام توفي طفل فلسطيني أمام مستشفى في مخيم عين الحلوة في محيط صيدا لأن أهله لا يملكون المال فمات بين أيديهم ولم يصل إلى الطبيب على باب المستشفى. الدين العام يرهق اللبنانيين وجاءت العواصف الطبيعية بخيراتها المائية لتحصد خسائر هائلة على صيادي الأسماك والمزارعين، وتلحق أضراراً في المرافىء والطرقات والحقول والسهول، ولا إدارة تسعف وتنقذ وتبلسم جرحاً. كأن الناس متروكون هنا وهناك. وفي جولات العنف لا يموت إلا الفقراء. وفي النهاية سيصل الجميع إلى تسويات وفي لحظات معينة، ولكن وللأسف عندما تتقاطع مصالح الكبار، الذين في ظل إرباكهم يدفع الناس الثمن كما هي الحال اليوم في التعاطي مع ليبيا خصوصاً، واليمن وغيرها، وفي ظل ارتكابهم يدفع الناس الثمن. هل نتعلم الدرس من تجارب وعبر الماضي ونحمي أرضنا من التفتت، ومن الاستغلال لتكون مسرح صراعات أو منبت خيرات تنهب من قبل الآخرين؟ يبدو ذلك صعباً. نحن أمام تغيرات ستطاول الجميع عسى أن لا تكون كلفتها كبيرة ومفتوحة... وفي لبنان، يبقى السؤال: أين الذكاء اللبناني الذي نتغنى به؟ أين العبقرية؟ أين التسوية؟