في عام 1999، رتب رجل الأعمال والثقافة الكويتي السيد عبدالعزيز البابطين زيارة إلى ليبيا لتهنئة الشعب الليبي برفع الحصار عنه بعد عشر سنوات عجاف. الحصار فرضه المجتمع الدولي لتورط نظام القذافي في أعمال إرهابية من بينها إسقاط طائرة لوكيربي الأميركية فوق اسكتلندا عام 1988. طرت من لندن -حيث كنت أعمل- إلى القاهرة حيث اتفقنا على اللقاء ومنها إلى طرابلس العاصمة الليبية. شارك في الرحلة مثقفون من كافة الدول العربية: من العراق شرقاً، وحتى موريتانيا غرباً. الطائرة تقترب من المدرج. صحراء تشبه أحد معارفك القدماء. لعل بني هلال مروا على هذه الطريق من هنا في تغريبتهم الأسطورية. شجيرات مبعثرة على أرض المدرج. تهرع بنا السيارة نحو الفندق. ترى! هل أوقف أبوزيد الهلالي رحل بني هلال في هذه البقعة؟ الطريق كالحة قاحلة. لعله الحصار "الظالم" المفروض على الشعب الليبي. كم ترددت عبارة "الحصار المفروض" على أطفال العراق؟ الفندق لا خدمات فيه. مؤكد بأن السبب الحصار. الدولة خالية تماماً من أي مقومات للبنى التحتية، كل شيء نعلقه على قميص عثمان -الحصار. غالباً ما بررت الحكومة الكويتية تقصيرها في تقديم الخدمات بالغزو العراقي الذي مضى عليه أكثر من عشرين عاماً. كعادتي، أتعمد أن أذهب إلى حيث الناس على سجيتهم. مارست عادتي على الرغم من نصيحة القائم بالأعمال الكويتي آنذاك -سعد الصالح. المكان موبوء بالمخابرات في كل مكان: "شلك بالطلايب" أي لا تبحث عن المشاكل. ظننته مبالغاً. الناس طيبون طيبة هواء ليبيا النقي، وبسيطون بساطة الصحراء، وكرماء كرم من لا يخشى الفقر، ليبيا كلمة تعني بلاد السمر. زرقة البحر خلابة، تلتقي زرقة البحر بصفار الصحراء بوجوه سمراء كريمة. خليط ألوان نادر يبهر الناظرين. لكن الخوف يملأ المكان، ويعشش في الحواري "زنقا زنقا"، ويسكن في النظرات. تراه في الالتفات المتكرر ويترجمه الحديث المختصر والإجابات المقتضبة. بعد أمسية شعرية واجتماعات تضامنية، ولقاءات تلفزيونية مع أعضاء الوفد، تقدم مني مراسل تلفزيون الجماهيرية، بادرني بالسؤال دونما استئذان: الأخ من الكويت أتيتم هنا لتهنئة ليبيا باحتفالات الفاتح من سبتمبر وقائدها المظفر الأخ العقيد القذافي؟ قلت له مندهشاً: الفاتح الرازق الكريم هو الله، ونحن في حزيران، وبقي على سبتمبر ثلاثة أشهر، ولا أعرف عن ثورة الفاتح شيئاً كي أتضامن معها، أتينا للتضامن مع الشعب الليبي الذي تعرض للحصار بغض النظر عن أسبابه ومسبباته. امتقع لونه، وأشاح بوجهه عني، وهرول إلى مشارك آخر. قيل لنا في اليوم الثاني تجهزوا غداً صباحاً فالأخ العقيد يرغب في لقائكم. متى الموعد؟ الثامنة صباحاً كونوا جاهزين في بهو الفندق. تمر الساعات ونحن ننتظر بلا اعتذار أو إلغاء أو تأكيد للموعد. اقتربت من الرابعة عصراً. ثماني ساعات ونحن ننتظر بلا احترام ولا خدمة ولا طعام. تململ الجميع. نهض السيد البابطين والتعب والضجر والغضب بادية على وجهه رغم أنه ماهر في إخفاء مشاعره من خلال قسمات وجهه. اتجهنا إلى المطار، ومنه إلى الطائرة دون كلمة توديع أو شكر من أي مسؤول ليبي. أتابع الأخبار، وأستحضر عمر المختار. لجنة شعبية كويتية لمناصرة الشعب الليبي. صودرت كافة التضحيات، بل اختزل بلد وشعب بأكمله في شخص واحد: الأخ العقيد معمر القذافي ملك الملوك الذي ليس له منصب رئاسي كي يستقيل منه؟ ألم التساؤل يئن في العقل: أتى بكل هذه المصائب لليبيا وشعبها المنكوب وهو لا يحمل صفة ولا يطمح لمنصب! فكيف لو كان رئيساً لليبيا أو كان رئيساً لها أو ملكاً عليها؟