إذ يمضي العقيد القذّافي في إحراق بلده وتبديد ثروته، بعد ما ألحقه بهما طوال 42 عاماً، يتكشّف نظامه "الجماهيريّ" عن التركيب ذاته الذي تقيمه الأنظمة التوتاليتاريّة، وعن السلوك ذاته الذي تسلكه. ولأنّ هذا النوع من الأنظمة يقوم على الخوف والترهيب، ويعرف أنّه بالقوّة وحدها يسيطر على السكّان، فإنّه غالباً ما يفكّك أجهزة القوّة القائمة ويبعثر أجسامها، لاسيّما الجيش، وذلك لمصلحة "جيوش" موازية تحتشد بالأتباع وأبناء الجماعات ذات الولاء المضمون، يقف على رأسها الأبناء والأصهار والدائرون في فلكهم. فكيف والقذّافي قد تعرّض فعلاً للعديد من المحاولات الانقلابيّة التي نفّذها أشخاص يُفترض أنّهم في قلب السلطة ومن نواتها الصلبة. ففي 24 ديسمبر 1969، أي بعد أقلّ من أربعة أشهر على انقلابه، اكتُشفت المحاولة الانقلابيّة الأولى التي كان يقودها وزير الداخليّة موسى أحمد، ومعه آدم الحوّاز، العضو الآخر في مجلس قيادة الثورة. ثمّ في 1975 قاد عمر المحيشي، العضو البارز في حركة الضبّاط الأحرار ثمّ في مجلس القيادة إيّاه، محاولة فاشلة أخرى فرّ بعدها من ليبيا إلى تونس فمصر. وقد نجم عن فشل المحاولة إعدام 22 ضابطاً قبل النجاح في خطف المحيشي وتصفيته. وقد تردّد في عام 1993 أنّ الرائد عبد السلام جلّود الذي كان يوصف بأنّه "الرجل الثاني" في النظام، ورئيس حكومة القذّافي لسنوات، نفّذ محاولة انقلابيّة فاشلة انتهت به إلى الإقامة الجبريّة في منزله. وهذا كلّه وغيره متوقّع في الأنظمة الاستبداديّة، كما هو متوقّعٌ صعود دور الأبناء والأقارب وذوي الحظوة. ومن هنا كثيراً ما يبدو الحديث عن سيف الإسلام والساعدي وهنيبعل والمعتصم بالله... تذكيراً بما كنّا سمعناه وعرفناه عن عديّ وقصيّ، ابني صدّام حسين، فضلاً عن برزان وسبعاوي ووطبان وباقي الأشقّاء والأصهار. على أنّ القذّافي بدأ في أوائل التسعينيات ممارسة سياسته في كسر الجيش الوطنيّ نهائيّاً، ومن ثمّ إضعاف سلك الضباط، خصوصاً وقد تردّدت آنذاك معلومات عن سلسلة محاولات انقلابيّة أخرى أقدم عليها ضباط متدنّو الرتب ينتمون إلى قبائل ورفلّه والمقارحة. فهؤلاء اعتبروا أن القذاذفة همّشوهم وضيّقوا عليهم، محتفظين لأنفسهم بالمواقع الفعليّة في السلطة والقرار، فضلاً عن استيائهم من الحرب الكارثيّة التي سيق البلد إليها ضدّ تشاد. ومعروفٌ أنّ الجيش الليبيّ كان في 1986 قد مُني بهزيمة عسكريّة على يد قوّات الرئيس التشادي حسين حبري، المدعومة من الفرنسيّين، والتي نجحت في صدّ تقدّمه نحو أراضيها، ثمّ استولت على أجزاء من أراضي ليبيا في شريط أوزو الحدوديّ، وعلى قاعدة السارة العسكريّة وأسرت قوّات ليبيّة فيها. وليس مؤكّداً حتّى اليوم ما إذا كان أحد أهداف القذّافي من وراء خوضه المغامرة التشاديّة، إضعاف جيشه وتعطيل كلّ دور داخليّ محتمل له، وهو أمر غير مستغرب على كل حال. لكنّ المؤكّد أنّه بدأ، منذ ذلك الحين، يضاعف تعويله على المرتزقة الذين اشتراهم وألقى بهم في ساحات معاركه. ويقدّر اليوم بعض الأخصّائيّين في الشأن الليبيّ أنّ جيش المرتزقة الذي بناه القذّافي يصل تعداده نحو 90 ألف مقاتل! وفي موازاة ذلك، ومع محاصرة القذّافي للقوّات المسلّحة عبر الحدّ من تمويلها وضغط الإنفاق عليها، فضلاً عن توجيه الموارد والتدريب نحو الوحدات النخبويّة المقاتلة والمتشكّلة من القذاذفة وقبائل حليفة لهم... بدأت العمليّة التي انتهت بتسليم تلك الوحدات إلى أبنائه. كذلك بدأ العمل على ما أسمته فصليّة "فورين أفيرز" الأميركيّة مؤخّراً "توظيف قوّة القبائل لصالح بيروقراطيّته الثوريّة"، ذالك أنّ الأُطُر الجديدة التي صُبّت فيها الجهود القَبَليّة في الحفاظ على أمن المناطق إنّما جاءت اعترافاً مداوراً بعجز "اللجان الثوريّة" وسائر الأدوات السلطويّة للنظام عن أداء أدوارها المفترضة. وقد حفلت الصحافة الأجنبيّة في السنوات الأخيرة بالإشارات إلى فساد "اللجان الشعبيّة" وإلى الكراهية الشعبيّة المتزايدة لها، ما كان يحمل على التشكّك بقدرتها على السيطرة على السكان. بلغة أخرى، تفسّخت "اللجان" وتراجعت أهميّة الجيش لمصلحة المرتزقة الأجانب والقبائل الموالية وفي طليعتها القذاذفة. فهؤلاء هم من يؤتمنون على صيانة السلطة وإبقاء المناطق النفطيّة وعائداتها في يد القذافي. ومع السنوات تعاظم الاهتراء والرثاثة اللذان يضربان البنية التحتيّة العسكريّة بسبب الإهمال والتقليص الشديد الذي خضعت له موازنة الجيش، حتى إذا اندلعت الثورتان التونسيّة والمصريّة أُجبر بعض كبار الضباط، وبعضهم مشاركون في انقلاب 1969، على التقاعد المبكر منعاً لقيامهم بأيّ تحرك مضادّ للنظام. واليوم، إذا ما قُيّض لليبيا الخروج سليمة من المستنقع الدمويّ الذي أغرقها فيه نظام القذافي، فستعود مسألة الجيش إلى الواجهة: هل يستطيع، بعد كلّ الإضعاف الذي تعرّض له، أن يكون العمود الفقريّ لتجديد وحدة البلد؟ الشيء الوحيد الذي يمكن قوله إنّ النظام الاستبداديّ ينجح في إيذاء البلد في ماضيه وحاضره ومستقبله دفعة واحدة. أليس في هذا ما يحمل، مرّة أخرى، على تذكّر "فضائل" صدّام حسين ونظامه على العراق وشعبه؟