غني عن القول إن الثامن من مارس من كل عام قد خصص يوماً عالمياً للمرأة احتفاءً وتأكيداً للدور الذي لعبته النساء في حركة التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولتأكيد القيم والأهداف التي ضحت من أجل تحقيقها لمصلحة النساء ونيل حقوقهن وتوسيع مشاركتهن في الحياة العامة رموزٌ وشخصياتٌ نسائيةٌ قائدةٌ، نستعرض من بينهن في لمحة خاطفة سيرة الثورية الألمانية روزا لوكسمبرج، نهضت بجمعها وترجمتها كاملة إلى اللغة الإنجليزية لأول مرة، المترجمة والكاتبة البريطانية شيلا روبتهام. فقد كانت روزا لوكسمبرج (1871 -1919) بولندية يهودية الأصل، غير أنها كانت من ألد أعداء اليمين الألماني والصهيوني معاً، لأنها كانت قد حسمت انتماءها السياسي والأيديولوجي في أقصى اليسار الألماني. وبقدر ما عرفت روزا لوكسمبرج بانغماسها في العمل السياسي اليومي، وبعطائها غير المحدود فيه، عرفت كذلك بغزارة كتابتها وإنتاجها الفكري، وبانخراطها في العمل الصحفي المناوئ للصعود اليميني، ولنذر الحرب العالمية الأولى التي كانت تلوح في الأفق حينها. وبسبب تحريضها اليومي المستمر ضد الحرب واتهامها بإهانة الملك البروسي، أمضت روزا ثلاث سنوات من حياتها وراء قضبان السجن. وفي بعض الرسائل التي كتبتها روزا، بعد إنساني يشف عن ملامح من حياتها الشخصية والعاطفية الخاصة. غير أن الجزء الأعظم من هذه الرسائل، يعكس مواقفها السياسية والاقتصادية إزاء تطورات وتحولات الواقع الأوروبي والعالمي في تلك الفترة. ومن بين رسائلها المترجمة والمنشورة في الكتاب، 190 رسالة بعثت بها روزا إلى أبرز قادة الحركة الاشتراكية في ذلك العصر، أعربت خلالها عن صراعاتها ومواقفها الفكرية المستقلة عن الدوغمائية الماركسية المتزمتة، كما كانت تصفها. ولئن خلد اسم روزا في تاريخ الحركة الاشتراكية العالمية بصفة خاصة، فإن ذلك مردّه في الأساس إلى كونها ثورية لم تساوم في مواقفها حتى داخل المعسكر اليساري الذي انتمت إليه. فإلى جانب انتقادها للدوغما الماركسية، كانت روزا من أشد منتقدي النظام المركزي الصارم الذي بنيت عليه الأحزاب الشيوعية المنوط بها قيادة الثورة. ولم تتردد في إعرابها الجريء عن مواقفها الفكرية المستقلة، من انتقاد لينين نفسه، إذ استهجنت ما رأت فيه من "روح حارس البوابة" التي كانت تسجن عقله وخياله الثوري كما تقول. ولدت روزا وترعرعت بين عائلة يهودية بولندية في عام 1871، وكانت أمها سليلة عائلة ينتمي إليها عدد من الخامات وكبار اللاهوتيين اليهود. ولما كان العداء للسامية في بولندا مستشرياً في ذلك الوقت، فقد فعلت العائلة كل ما بوسعها من أجل الاندماج الكلي في المجتمع البولندي، حرصاً منها على اتقاء شر التمييز العنصري ضد السامية. ورغم ذلك، كانت الطفلة الصغيرة روزا تعاني صنوفاً عديدة ومتنوعة من التمييز ضدها بين زميلاتها في الفصل الدراسي، ضاعفت منها إعاقة جسدية خاصة، دفعت بها أكثر نحو الانفراد والعزلة الاجتماعية، مقابل اهتمام فائق بالقراءة والنشاط الذهني، تطور ونما معها في مختلف مراحل حياتها اللاحقة. وفي ثمانينيات القرن التاسع عشر، وهي مرحلة بداية تكون شخصيتها، كانت النساء البولنديات والروسيات يتعرضن للسجن والإعدام والتنكيل بهن لاتهامهن بالمشاركة في العمل الثوري المناهض للقيصرية حينئذ. ومن خلال قراءتها وتحليلها لتلك الممارسات، كانت روزا قد تنبأت بقدوم وصعود النازية التي وصلت بتلك الممارسات الوحشية إلى حدها الأقصى، خاصة ضد اليهود. وفي التراث الفكري الذي خلفته روزا، نلاحظ أنها كرست قسماً كبير لا يستهان به من مؤلفاتها -كما هو متوقع- لمناقشة أوضاع النساء ودورهن في حركة التغيير الاجتماعي. وفي هذا الجانب تعتبر روزا رمزاً تاريخياً من رموز الحركة النسوية. غير أنه من الواجب التمييز بين المنحى الفكري والعملي الذي اتخذته روزا لنفسها في هذه الحركة -في إطار مناداتها وعملها من أجل التحرر الثوري العام للجنسين معاً- وبين الحركة النسوية بمفهومها الضيق الذي يؤكد على التحرر النسوي بعيداً عن مفهوم الثورة الاجتماعية الذي تؤمن به روزا. وفي يناير من عام 1919 لقيت روزا مصرعها على يد عصابة من المناوئين لها فكرياً وسياسياً في برلين. وبتلك النهاية المأساوية الفاجعة اختتمت سيرة حياة إحدى أبرز قائدات حركة التغيير السياسي الاجتماعي الأوروبية. ولعل أكثر ما يلهم في هذه السيرة الطويلة من العمل التحرري الذي استمر لعدة عقود، الإيمان المطلق بحرية واستقلال الفكر الإنساني، والقدرة على مواجهة الطغيان والقهر بمختلف مسمياتهما وأشكالهما، حتى وإن كان طغياناً باسم الثورة والتحرر الاجتماعي. كما أنها سيرة جديرة بالنظر والاعتبار من زاوية دفاعها المستميت عن حقوق النساء ودورهن في حركة التغيير الاجتماعي، على حد تعليق بعض قراء ومحللي الكتاب. عبدالجبار عبدالله الكتاب: رسائل روزا لوكسمبرج إعداد وترجمة: شيلا روبتهام الناشر: مطبعة "فيرسو" تاريخ النشر: 2011