سببت الانتفاضات العربية في شمال إفريقيا قلقاً بالغاً في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، ودفعت الحكام الأوتوقراطيين هناك إلى التفكير جدياً في مستقبلهم، والتساؤل عما إذا كانوا مرشحين بدورهم للتعرض لحالات عدم الاستقرار التي عانتها ولا تزال تعانيها دول الشمال الإفريقي. وكان من المتوقع أن تقلق الدول المجاورة لتونس ومصر وليبيا، خاصة الجزائر والمغرب، وأن ينتقل هذا القلق أيضاً لبعض الحكام العرب الآخرين الذين يتابعون تفاصيل الدراما اليومية التي تتكشف على سواحل البحر الأبيض المتوسط. لكن أكثر المؤشرات على هذا الإحساس بانعدام الأمن السياسي من حيث دلالتها، هو تلك التصرفات غير الاعتيادية التي أقدم عليها القادة الشيوعيون في الصين، عندما بذلوا جهداً جباراً، ليس لاحتواء احتجاجات المواطنين الصينيين، وإنما لحذف أي إشارة للأحداث الجارية على بعد آلاف الأميال، من الصحف، والتلفزيون، والإنترنت، بل حتى من المواقع المصغرة التي تعمل على الهواتف المتحركة، وهو ما يكشف في مجمله عن حجم القلق الذي ينتاب هؤلاء المسؤولين بسبب تلك الأحداث ومن احتمال انتقال عدواها للصين. وفي إطار تلك الإجراءات، فرضت السلطات الصينية حظراً على كلمة "مصر" على شبكات التواصل الاجتماعي الشهيرة لديها، والمعادلة لـ" تويتر"، والتي يستخدمها ما لا يقل عن 50 مليون صيني، كما ألغت جميع وصلات الإنترنت المحملة بعبارات "ثورة الياسمين"، و"ثورة اللوتس"، و"انتفاضات شمال إفريقيا"... وما أشبه. وبالإضافة لذلك عمدت السلطات الصينية للتضييق على الصحفيين والمراسلين الأجانب، إذا ما شكت أنهم يحاولون تغطية مظاهرات أو احتجاجات محتملة، أو ينوون إجراء مقابلات مع مواطنين صينيين عاديين لاستطلاع آرائهم بشأن الثورات والانتفاضات التي تحدث في الشرق الأوسط. وإذا ما وضعنا في الاعتبار صعود الصين السريع كقوة عظمى على الساحة الدولية، والتوقعات الواثقة بأنها ستتجاوز الولايات المتحدة في غضون عقود قليلة كأكبر قوة اقتصادية في العالم... فالسؤال الذي سيتبادر تلقائيا إلى الذهن هو: ما السبب في تلك التصرفات من جانب القادة الصينيين؟ الإجابة هي معرفة هؤلاء القادة التامة بأنه رغم حقيقة أنهم قد شجعوا ومكنوا مواطنيهم من المشاركة في السوق الرأسمالية العالمية، مما سمح لمئات الملايين منهم بالتخلص من براثن الفقر المدقع، فإن ذلك بحد ذاته ليس كافياً لكبح تطلعاتهم السياسية، ومن أهمها أن يكون لهم نصيب أكبر من حرية التعبير عن آرائهم بشأن الطريقة التي تحكم بها بلادهم، وأن يكون لهم حق التمتع بالحريات السياسية التي يتمتع بها مواطنو الكثير من دول العالم. كان هذا على وجه التحديد، هو ما أثار قلق القادة الصينيين من الانتفاضات العربية. فهاهم العرب أخيراً يتظاهرون في الشوارع مطالبين بالحريات الأساسية العامة، كما يطالبون بتحسين أحوالهم المعيشية، ووضع نهاية لتحالف الفساد والاستبداد في بلدانهم، ووضع حد للمعاملة الوحشية التي كانوا يلقونها على أيدي الأجهزة الأمنية السرية الرهيبة (أجهزة أمن الدولة) في بلدانهم. فهؤلاء المحتجون كانوا يتظاهرون في الشوارع مطالبين بالحريات السياسية التي ينعم بها المواطنون، ليس فقط في بلدان الغرب وإنما في بلدان أخرى مثل الهند واليابان وغيرهما من البلدان الآسيوية. وإلى ذلك فقد كان القادة الصينيون يعرفون حق المعرفة أنه رغم إنجازاتهم الاقتصادية فإن مئات الملايين من مواطنيهم ما زالوا يعيشون في فقر مدقع، وأن الفجوة تزداد اتساعاً بين أغنيائهم وفقرائهم... كما يعرفون أن الفساد متفش في البلاد، خصوصاً في القرى، والبلدات، والمدن الصغيرة، وعواصم الأقاليم الزراعية على وجه التحديد. وكان هؤلاء القادة يعرفون أيضاً ما لا يعرفه معظم العالم الخارجي، وهو أن هناك العديد من الاحتجاجات والمظاهرات التي تنطلق كل أسبوع تقريباً في مختلف مدن الصين، ولا يعلن عنها في وسائل الإعلام، ضد الفساد البيروقراطي، والترويع، والعنف. كان هؤلاء القادة يعرفون أيضاً أنه رغم كونهم أفضل اقتصادياً من معظم الاقتصادات الناهضة في آسيا، كالهند مثلاً، إلا أن حكومات تلك البلدان لا يتملكها مثل هذا الخوف الذي يتملكهم تجاه ما يحدث في الشرق الأوسط، كما لا تمانع من أن تقوم أجهزة إعلامها بتغطية الاحتجاجات والمظاهرات المندلعة في بلدانها. التفسير الحميد لسلوك المسؤولين الصينيين حيال أحداث الشرق الأوسط هو أن بلدهم يعيش في سباق مع الزمن. فهم يعرفون أنهم إذا لم يتمكنوا من المحافظة على معدل نمو يزيد على 10 في المئة سنوياً، فسيجدون صعوبة بالغة في إيجاد وظائف لمواطنيهم وتحقيق أهداف زيادة الدخل الفردي لهم. وهؤلاء القادة يشعرون بقلق، ليس فقط من أن تشجع ثورات وانتفاضات الشرق الأوسط على إحداث شقاق بين سكان الصين، ولكن أيضاً بقلق من انتشار حالة عدم الاستقرار التي يمكن أن تنشأ جراء ذلك، والتي قد تؤدي إلى إحداث قلاقل في أسواق الاستيراد والتصدير التي تتعامل معها الصين وهو ما يؤدي بدوره إلى زيادة الضغوط التضخمية في اقتصادها الذي يسير بخطي لاهثة. ورغم أن حملات الصين المشددة على وسائل الإعلام تمثل إشارة على وضعها السياسي الخاص، فإن قدرة القوى التي تواجه تحديات سياسية، وتتمتع مع ذلك بقوة اقتصادية وعسكرية، على شن هجمات ضد جيرانها ومنافسيها، أمر لا يمكن التقليل من شأنه أو استبعاده. ورغم أن الحزب الشيوعي الصيني يعرف على الأرجح أن بقاءه في الحكم ليس أبدياً، بل يمكن قياسه بالسنين وليس بالشهور، فإن ذلك يجب ألا يُتخذ مؤشراً على أنه مستعد لتقديم تنازلات سياسية في أي وقت قريب. فقادة هذا الحزب يعرفون جيداً أنهم إذا ما بدؤوا في عملية التخلي عن السلطة، فإن تلك العملية لن تكون لها نهاية.