يمر العالم العربي حاليّاً بظروف استثنائية لم تبدُ فيها رؤية واضحة بعيداً عن العموميات التي تذهب إلى التحول السريع والمفاجئ نحو الديمقراطية، ولم يمهل الشارع الثائر القائمين على الشأن العام فرصة لالتقاط الأنفاس. هذا الوضع أخّر القضية الفلسطينية كثيراً عن بؤرة الأحداث وسُلم الأولويات على المستوى الإعلامي والسياسي، إلا أن التطور المفاجئ أيضاً هنا هو في مبادرة نتنياهو لطرح مشروع "دويلة" فلسطينية "مؤقتة" على وجه السرعة وتجاوز معضلة الاستيطان العصية على الحل الآني، وعلى رغم أن أميركا مارست ضغوطاً في بداية رئاسة أوباما إلا أنها صوتت ضد الإدانة لاحقاً، وأثار هذا الموقف موجة من الاستياء ولكنها لم تصل إلى قوة الأحداث الساخنة في العالم العربي وطغيانها على أي حدث آخر وإن كان جوهريّاً من الناحية المستقبلية في الشرق الأوسط. طبعاً، إسرائيل لا تتحرك إلا في الأجواء المضطربة، ولذا من المعقول أن لا يوافق عربي واحد فضلاً عن أهل الشأن الفلسطيني على هذه المبادرة التي وصفتها الجامعة العربية: "مبادرة نتنياهو مناورة وتخريف". في السياسة أي مناورة بحاجة إلى مناورة مضادة ولكن بدون تخريف، لأنه ليس من المنطق إذا كان العدو الأوحد خرَّف فإن المقابل يجب ألا يخوض خرفاً مثله. فإسرائيل منذ البداية تقوم بمثل هذه المناورات التي لا تخطر على بال أهل السياسة، فمن كان يتوقع أن شارون المغيب عن الوعي ينسحب فجأة من غزة ليدفع بالقضية الفلسطينية بالاتجاه المعاكس ويقع الانشقاق بين الفلسطينيين أنفسهم، فتحاويين وحمساويين لم يتفقوا حتى في هذا الوضع المتأزم في العالم العربي. إننا أمام إسرائيل العدو الذي يلعب بالنار في الوقت الذي تشتعل فيه المنطقة بالثورات والاحتجاجات والمظاهرات، وبتغييرات بعض الحكومات على مدار الأسبوع كما هو مرئي وملموس. فالحديث عن دويلة فلسطينية ولو كانت "دائمة" بات بعيداً عن النقاش الجاد، حتى الإعلان "الفردي" عن هذه الدويلة، أي من طرف واحد لم يعد له مكان من الإعراب لأن المستجدات الحالية في العالم العربي لم تتضح معالمها للاستقرار المنشود والمأمون. ليست السياسة لعبة رياضية تحسم أمورها في التو، بل هي في ذاتها فن للمناورة، فيها أخذ وعطاء، قد تختلف نسب الأخذ والعطاء، إلا أن النتيجة أيضاً لا تحسمها الحروب، بل العقول البراجماتية التي لابد أن تأخذ شيئاً بدل أن تخسر كل شيء. إن إسرائيل اليوم لا تنظر إلى داخلها بقدر ما هي تمد النظر إلى ما يحقق مصالحها بعد أن يسود الهدوء والأمن والاستقرار العالم العربي الذي ماج فجأة دون تخطيط ظاهر أو برأس مدبِّر. حتى الدويلة المؤقتة غدت صعبة المنال، لصعوبة الحال وغموض المآل، فلا يمكن إنشاء دولة فلسطينية في ظل وجود دول عربية تغيرت 180 درجة، حتى تتم معرفة الغوص في هذا المجهول للخروج بشيء يمكن التمسك به سياسيّاً، وهو ما تلعب عليه إسرائيل حاليّاً، فلا يوجد اليوم مسؤول عربي يرد على مبادرة الدويلة المؤقتة لأن الهم الأعظم في استقرار العالم العربي الآن وليس غداً.