حسمت ثورة 25 يناير مشكلة العجز الديمقراطي في مصر، الذي تمثل أساساً في تجفيف منابع السياسة نتيجة لهيمنة النظام السلطوي. وهذه الهيمنة تمثلت أساساً في سلطات مطلقة لرئيس الجمهورية، وتغول شديد للسلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، ومحاولات خفية للنيل من استقلال القضاء، وانفراد الحزب الوطني الديمقراطي بالسلطة طيلة ثلاثين عاماً، وتهميش الأحزاب السياسية المعارضة، ومنع نشوء أحزاب سياسية حقيقية جديدة، والقمع المنهجي لمن يعارض السلطة من السياسيين والمثقفين. هذه قائمة طويلة حقاً تكشف بوضوح عن مفردات النظام السلطوي، الذي أدى في الواقع إلى وقف العمل بالسياسة بمعناها الحقيقي! والسياسة في أي مجتمع ديمقراطي تقوم على أساس التعددية الفكرية والتعددية الحزبية، في سياق يسمح بتداول السلطة بعد انتخابات رئاسية ونيابية شفافة، لا يشوبها التزوير، ولا تحمل في طياتها تزييف إرادة الجماهير. وفي ضوء ذلك كله إذا ظننا أن مجموعة من التعديلات الدستورية مهما كانت أهميتها في مجال توسيع إطار المشاركة السياسية وضمان نزاهة الانتخابات، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، ومجلسين للشورى والشعب، ستحل مشكلة انسداد الآفاق الديمقراطية في البلاد نكون مخطئين خطأ جسيماً. وذلك لأننا في حاجة إلى إعادة اختراع السياسة بعد أن جفت مياهها، وأنا هنا أستعيد عنوان كتاب لي صدر عام 2005 "إعادة اختراع السياسة.. من الحداثة إلى العولمة" (ميريت 2005). وحين أعود إلى فصوله المختلفة أجدني أثير من المشكلات ما يستحق إعادة إثارته اليوم، ولكن في سياق مختلف جدّاً! لقد كنت أتحدث من منظور الإصلاح السياسي لا من منظور الثورة، التي كان وقوعها في جيلنا يمثل ضرباً من ضروب الخيال! والدليل على ذلك أنني كتبت مقالاً بعنوان "محنة التحول الديمقراطي العربي" تحدثت فيه عن عملية التحول الديمقراطي، التي هي بحسب التعريف الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية. وقررت أنه في هذه المشكلة بالذات تبدو محنة التحول الديمقراطي العربي وذكرت بالنص "إذا كان هناك إجماع عالمي على أن عهد الثورات والانقلابات قد ولَّى، وأننا نعيش في عصر الإصلاح بكل تجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن التحدي الحقيقي يكمن في أن معظم النظم السياسية العربية لن تجدي بصددها أي تغييرات جزئية، بل لابد من تغيير طبيعة نظمها السياسية حتى يحدث التحول الديمقراطي". وها هي ثورة 25 يناير تثبت صدق هذه المقولة. ذلك أن عملية الإصلاح السياسي في عهد مبارك تعثرت وتجمدت بحكم تشبث نظامه بالسلطة المطلقة، ورفضه القاطع لمسألة تداول السلطة. وهكذا جاءت الثورة لتبدأ مصر طريقها الحقيقي إزاء الديمقراطية. والديمقراطية ليست مجرد نظام سياسي ولكنها أسلوب حياة. وفي ضوء ذلك ينبغي التفرقة بين إجراءات الديمقراطية وقيم الديمقراطية. فإجراءات الديمقراطية قد تتمثل في الانتخابات وفي إجرائها بصورة دورية، إشارة إلى أن ممثلي الشعب ينبغي أن يتم اختيارهم من قبل الجماهير. غير أنه إذا جرت انتخابات في غيبة الالتزام بقيم الديمقراطية نصبح أمام موقف جدّ خطير. ولا شك أن هناك قائمة طويلة تشكل مفردات الديمقراطية، وعلى رأسها احترام حقوق الإنسان واحترام التعددية. ويمكن القول إننا نعيش في عصر العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية. وشعارات العولمة المرفوعة هي الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والتعددية. وحقوق الإنسان تثير في التطبيق مشكلات شتى وخصوصاً في الوطن العربي، وذلك لأن الوضع السلطوي السائد أدى في التطبيق عبر الخمسين عاماً الأخيرة إلى اعتداءات جسيمة في هذا المجال، وخصوصاً في طرق إدارة النظم السياسية السلطوية العربية لصراعها مع خصومها السياسيين. غير أن هذه النظم السياسية العربية السلطوية لم تجرؤ على أن تعترض جهاراً على تطبيق مواثيق حقوق الإنسان التي وقعت على أغلبها، ولذلك ومن قبيل المراوغة رفعت حجة الخصوصية الثقافية في مواجهة عالمية حقوق الإنسان، ومحتوى هذه الحجة أنه مع التسليم بعالمية حقوق الإنسان إلا أنه في التطبيق لابد من مراعاة الخصوصيات الثقافية للدول العربية والإسلامية، مما يمنع من تطبيق بعض قواعدها. وهناك اتفاق -على سبيل المثال- على أن أي متهم ينبغي أن يحاكم أمام قاضيه الطبيعي، ولابد له أن يتمتع بضمانات قانونية تكفل له محاكمة عادلة، ومن بينها ضرورة استعانته بمحامٍ، وعدم تعرضه للتعذيب، والالتزام الدقيق بقواعد الإجراءات الجنائية المتفق عليها في كل بلاد العالم المتحضر. وفي هذه المجالات وغيرها ليس هناك مجال للتعلل بحجة الخصوصية الثقافية لعدم تطبيق قواعد حقوق الإنسان العالمية. وإذا أضفنا إلى ذلك حقوق الإنسان السياسية، وحق المواطنين في الانتخاب الحر المباشر لمن يمثلونهم في المجالس المحلية والنيابية، أدركنا أن إعمال هذه الحقوق بشكل صحيح إنما يمثل ضربة حقيقية لصميم بنية النظام السلطوي الذي يقوم على القهر السياسي للجماهير، والذي حين يريد أن "يتجمّل" ويلبس أردية الديمقراطية، فإنه يلجأ إلى الاستفتاءات والانتخابات المزورة هروباً من قاعدة تداول السلطة. غير أن حقوق الإنسان لا تتعلق فقط بالحقوق القانونية أو السياسية ولكنها -أكثر من ذلك- تتعلق بالحقوق الاقتصادية. وفي هذا المجال فإن الدولة السلطوية العربية التي تسيطر على عملية صنع القرار فيها العشوائية التي أدت إلى إهدار المال العام، بالإضافة إلى الفساد المنظم الذي تمارسه بعض النخب السياسية الحاكمة، وكل ذلك أدى إلى حرمان الجماهير العربية العريضة من حقها في العمل المنتظم، وفي التمتع بالتأمينات الاجتماعية والصحية، التي هي حق من حقوق الإنسان في أي مجتمع معاصر. غير أن احترام حقوق الإنسان ليس سوى جانب من جوانب الديمقراطية، أما الجانب الثاني المهم فهو ضرورة احترام التعددية. والتعددية ليست تعددية سياسية فقط، ولكنها قد تكون تعددية دينية وعرقية ولغوية. ولاشك أن جزءاً من مشكلة التعددية سياسية كانت أو دينية أو لغوية، هو غياب حرية التنظيم من ممارسات عديد من الدول العربية. وحرية التنظيم بما تتيحه من تعددية سياسية من شأنها أن تجعل الانتخابات المحلية والنيابية آلية فعالة من آليات تداول السلطة. وذلك لأن الظاهرة السائدة في الوطن العربي هي ديمومة النخب السياسية الحاكمة في ظل نظم سياسية لا تسمح إطلاقاً بتداول السلطة، وباستخدام آليات مختلفة غير ديمقراطية لتحقيق هذا الهدف. وقد أدى هذا الوضع إلى تجمد السياسات العربية، وظهور مراكز القوى السياسية، واحتكار السلطة والمال والنفوذ، بل وأدى إلى شيوع ظاهرة الفساد. ولذلك لم يكن غريباً أن تتصاعد في العقد الأخير الدعوات العالمية لضرورة تطبيق قواعد "الحكم الرشيد" في الوطن العربي Governance، باعتبار أن هذا النمط من الحكم هو الذي سيحقق قيم المثال الديمقراطي الذي تحدثنا عنه من قبل بكل مفرداته، في ظل تطور المجتمع المعلوماتي العالمي، الذي يقوم أساساً على حرية تداول المعلومات والشفافية، بما يكفل للمحكومين أن يراقبوا أداء الحكام. وما زلنا في سياق تتبع إمكانيات تطبيق مفردات الديمقراطية الأخرى في ضوء كونها ليست مجرد نظام سياسي، ولكن ينبغي أن تكون أسلوب حياة.