إن ما يجري على الساحة العربية هذه الأيام هو في حقيقة الأمر شبه "انقلاب" لكل التقاليد السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والإعلامية! وهو ما أصبح محور اهتمام العالم من سيدني إلى سان فرانسسكو! وقد مارس الإعلام الرسمي -في أغلب الدول العربية- ممارسات لم نكن نتمناها! وطالبنا كثيراً بتغيير النهوج الإعلامية "المادحة الصادحة"؛ والتحول نحو العقلانية -حسبما درسناها في مدارس الغرب- ذلك أن المدرسة العربية في الإعلام -للأسف- كانت تحت وصاية الدولة، ولم تفلح الجامعات العربية أن تُخرّج أساتذة وإعلاميين يفصلون بين أحلامهم وواقعهم وآمالهم ونفسياتهم وبين حيادية الإعلام ورصانته واتساعه ليشمل كل الآراء، وبنفس القدر أو الدرجة والمساحة؛ إلا في أضيق الحدود. وهؤلاء الخريجون صهرتهم آلة ُ الإعلام الرسمي في العمل، فضاع منهم الكثير من المنظومات التي تحكم العمل الإعلامي. ولم يبق إلا القليل منهم ممن "عادتهُ" الدولة أو هاجر إلى أوروبا حيث الحرية الإعلامية بمعناها الأعم. وما يحدث اليوم في مصر بعد الثورة تحوّلٌ جذري في مسارات ذاك الإعلام -الذي صاغ الإعلام العربي- بعد أكثر من سبعين عاماً من هيمنة الدولة المصرية على ذلك الإعلام -بل وهيمنة حزب واحد عليه. وحتى الفضائيات الخاصة كانت لها ارتباطات مع عائلة الرئيس أو حاشيته! ولا نريد استحضار الشواهد الدامغة على "رسمية" أو انحياز ذلك الإعلام وعدم جرأته في تناول قضايا المواطنين أو نشر آرائهم فيما يتعلق بالسياسات العامة في البلاد. أما بعد الثورة فقد شاهدنا التحول، ورأينا كيف ظهرت عدسات الصحف والتلفزيون لتصوّر وزير الداخلية وهو يركب "البوكس" المخصص لضحايا النظام من الكتاب والمفكرين الشرفاء، نحو مثواه الأخير في السجن. وكذلك رأينا بعض زعماء "مافيا الثورة" الذين امتصوا دماء الشعب المصري وخيراته، وكان الإعلام الرسمي حقاً يمارس إخفاء الحقائق التي كانت تعتمل في صدر الشباب المصري الذي قاد الثورة، بل وسقط إعلاميون عديدون في امتحان التحول ذلك. ونأتي إلى ليبيا! فما زال "القائد" وابنه سيف الإسلام يمارسان نفس الكذب الذي مارسه وزير إعلام هتلر "جوبلز" في الحرب العالمية من تزوير للحقائق وتحولات سير المعارك. بل ويعلن "الزعيم" أنه ما زال محبوباً من أبناء شعبه في الوقت الذي تدوس أقدام هذا الشعب صوره، وتقوم دباباته بتفجير البيوت الآمنة وقتل الأطفال والنساء دون تفرقة، وفي الوقت الذي سقط فيه نصف ليبيا في يد الثوار. وهو لا يأبه بالقرارات الدولية ولا المقاطعات ولا النداءات له بترك الحكم والاستجابة لمطالب الجماهير. بل والأنكى من ذلك أنه "يوظف" عبر شاشته العريضة من ينكرون الأحداث الدامية التي صورتها كل كاميرات العالم من قتل وتنكيل وتوظيف مرتزقة وسرقة جثث الضحايا -بل وتصريحات أبناء ليبيا وتخلي معظم سفرائه ودبلوماسييه عن نظامه- ولعل الشريط الذي بثته القناة الليبية قبل أيام لأكبر دليل على ضعف حيلة الإعلام الرسمي عندما تم تجميع بعض أفراد الشعب الليبي وتم تجاهل كل القنوات الفضائية والإنترنت والتويتر والفيسبوك؛ وكأن هذا النظام يعيش في القرون الوسطى التي لا تصل فيها الرسائل إلى "فرسخين" إلا بعد ثلاثة أيام! ويأتي ابن الزعيم سيف الإسلام الذي عُرف ببذخه اللامحدود، ليعلن أنه لا توجد لأسرته أية حسابات بنكية في الخارج، وأن ما يجري في العالم ما هو إلا حملة منظمة ضد ليبيا. وفي ذات الوقت بدأت الدول الأوروبية تجميد حسابات القذافي وأسرته؛ فقد أعلنت النمسا توسيع دائرة التجميد من الأسرة لتشمل (نائب رئيس هيئة الاستثمار الليبية الذي يحمل جواز سفر نمساويّاً) كما ذكرت صحيفة نمساوية أن ثروة القذافي في النمسا تصل إلى 30 مليار دولار. كما أن لصندوق هيئة الاستثمار أصولاً تقدر بحوالي 65 مليار دولار في أنحاء العالم. وحسب مصادر صحافية فإن ليبيا قد أودعت 32 مليار دولار في مصارف أميركية على شكل سيولة مباشرة، وقامت الخزانة الأميركية بتجميد 30 مليار دولار من تلك الأموال. واستناداً إلى قرار الأمم المتحدة الصادر بحق ليبيا وعائلة القذافي فإن الإنتربول بدأ منذ الأحد الماضي في نشر إعلان في صحف العالم؛ بصورة تحذير أمني (Security Alert) يحظر سفر أو تحويل أموال القذافي وأسرته، مما يشكل خطراً على ليبيا أو أية أقطار أخرى؛ وهم تحت عقوبات منع السفر وتجميد الأرصدة. كما جاء الإعلان "البرتقالي" مشتملاً على صورة القذافي وتهمته: قمع المظاهرات بصورة تتنافى مع حقوق الإنسان. قضية بعض الزعماء العرب مع الكذب قضية قديمة. وللأسف؛ مع التطور التكنولوجي وسرعة ودقة تدفق المعلومات وانتشارها، فإن بعض الحكام لا يقرؤون الأحداث، ولا يحاولون تغيير طرائقهم في قهر الشعوب والاستيلاء على مقدراتها. ولعلنا نذكر هنا موقف الإعلام العراقي الرسمي قبل سويعات من سقوط بغداد، حيث كان وزير الإعلام العراقي يكابر بأن بغداد عصية على "العلوج" وأنهم سيقتلون على مشارف بغداد، وبعدها تدخل الدبابات الأميركية ميدان الفردوس، ويهوي تمثال صدام "العظيم" على أيدي الشباب العراقيين. ونفس الكذب سمعناه صغاراً عندما حوّل أحمد سعيد في "صوت العرب" الهزيمة إلى انتصار وكذب على ملايين العرب -الذين خرجوا في مظاهرات عارمة منتشين بنصر كاذب؛ في الوقت الذي ضربت فيه إسرائيل الطائرات المصرية كلها وهي جاثمة في المطار الحربي. وبرر الإعلام المصري أنذاك الهزيمة بأنها "نكسة" ولابد من إزالة آثار العدوان! وهكذا تم تمرير الكذبة على الشعب العربي بأسره. إن الدول المتحضرة لم تصل إلى ما وصلت إليه من تطور وانفتاح وبنى تحتية ورأي في الأمم المتحدة والمحافل الدولية، وصناعات ومؤسسات حقوقية ومدنية، إلا عبر الشفافية والصدق! وهما أقرب طريقين نحو تفاهم سياسي بين الحكومة والشعب. كما أن الأدبيات علمتنا أن "حبل الكذب قصير"! وعليه، فنحن في العالم العربي نحتاج إلى ثقافة الصدق، ليس مع زوجاتنا فحسب، بل مع السلطات التي تحكمنا! حتى نرتاح وترتاح السلطات! ويأخذ كل ذي حق حقه. ذلك أن وجود ثقافة الكذب واستشراء شراء الذمم والضمائر؛ وتسخير جيوش الإعلاميين لنشر تلك الثقافة كلها مراحل مؤقتة لن تطول، لأن الشمس كل يوم تأتي بيوم جديد، ولم يحصل أن جاءت بالأمس الراحل. ولذا فإن علينا أن نراجع أوضاعنا بعقلانية، ونقرأ التحولات العالمية، ونؤسس لعلاقة أوثق فيما بيننا في أجواء من الصراحة والصدق والشفافية لندرأ أي خطر يهدد مجتمعاتنا العربية في المستقبل.