فرضت التطورات والاختراقات الطبية المتلاحقة خلال العقود والسنين القليلة الماضية، العديد من التحديات والمعضلات الأخلاقية والدينية والاجتماعية، مثل القضايا والمعضلات التي فرضها مجال زراعة الأعضاء، أو أطفال الأنابيب والإخصاب الخارجي، أو الاستنساخ وأبحاث الخلايا الجذعية. ويعتبر مجال الأطفال المبتسرين، أو الأطفال الخدج المولودين ولادة مبكرة، إحدى أهم القضايا الأخلاقية ذات التبعات الاجتماعية والمالية الجمة، التي تزايدت مضاعفاتها وتعددت جوانبها بمرور الوقت، وخصوصاً في الأعوام الخمسة عشر الماضية، نتيجة ما شهدته هذه الفترة من زيادة في قدرة العلوم الطبية على خفض السن الذي يمكن أن يولد فيها الطفل مبكراً -قبل اكتمال الحمل- ويظل على قيد الحياة. وهذه السن، التي تعرف بحد الحياة أو حافة الحياة (Edge of Viability)، أصبحت حاليّاً في بعض الدول لا يتعدى 23 أسبوع حمل فقط، وهو ما يشكل أقل من 60 في المئة من الوقت الذي يفترض أن يقضيه الجنين في رحم أمه لاكتمال نموه عند 40 أسبوعاً، أو 37 أسبوعاً على الأقل. حيث يعرف الأطباء الولادة المبكرة بأنها حالات الولادة التي تتم قبل إتمام سبعة وثلاثين أسبوعاً من الحمل، على أساس أن الحمل الطبيعي يستمر فترة أربعين أسبوعاً. وعلى عكس ما يعتقد كثيرون تنتشر حالات الولادة المبكرة بشكل واسع. ففي الولايات المتحدة مثلًا يولد 12 في المئة من الأطفال، أو واحد من كل ثمانية، قبل إتمام فترة الحمل الكاملة، وهو ما يترجم إلى أكثر من نصف مليون حالة ولادة مبكرة في العام الواحد، وفي بريطانيا تشير التقديرات إلى أن عدد الولادات المبكرة قد وصل إلى 9 في المئة من بين جميع الولادات. وعلى رغم أن كثيراً من عوامل الخطر التي تسبب نهاية الحمل بشكل مبكر هي عوامل معروفة وموثقة، فإن قرابة نصف الحالات تحدث دون سبب واضح. وتكمن مشكلة الولادة المبكرة في أنه كلما قصرت فترة الحمل كلما زادت مخاطر تعرض المولود الجديد للعديد من المضاعفات والمشاكل الصحية الخطيرة، مثل الشلل المخي، وأمراض الرئتين المزمنة، ومشاكل الجهاز الهضمي، بالإضافة إلى التخلف العقلي وفقدان السمع والبصر. وهذه المشاكل الصحية تظهر نفسها بشكل جلي من خلال الارتفاع الواضح في معدلات الوفيات خلال العام الأول بين هؤلاء الأطفال. وبالإضافة إلى هذه المشاكل الصحية والمضاعفات الخطيرة تشير الدراسات والإحصائيات إلى أن تكلفة رعاية الأطفال المبتسرين في بريطانيا تبلغ مليار جنيه إسترليني سنويّاً. وقد توصلت الدراسة إلى هذه الأرقام على أساس حساب تكلفة رعاية هؤلاء الأطفال خلال الثمانية عشر عاماً الأولى من حياتهم، بما في ذلك مصاريف الرعاية الصحية، والتعليم، والدخل المفقود لمن يتولى رعايتهم. وتتطابق نتائج هذه الدراسة مع التقديرات الصادرة في الولايات المتحدة التي تشير إلى أن رعاية الأطفال المبتسرين تعتبر من أهم البنود التي تستنزف ميزانيات الرعاية الصحية، وذلك دون الأخذ في الاعتبار تكلفة الرعاية طويلة الأجل إذا ما أصيبوا بمضاعفات صحية مزمنة أو إعاقات بدنية أو عقلية. وعلى سبيل المثال تبلغ رعاية المولود خلال الأيام الأولى من حياته حوالي ألف دولار، إذا ولد بوزن أكثر من ثلاثة كيلوجرامات، ولكن إذا ما ولد الطفل بوزن يتراوح ما بين 500 إلى 700 جرام، ترتفع تكلفة رعايته حينها إلى 225 ألف دولار. وبالنظر إلى المضاعفات الصحية الخطيرة التي تترافق مع الولادة المبكرة، والتي غالباً ما تؤدي إلى وفاة هؤلاء الأطفال في الأيام والأسابيع الأولى من حياتهم، وحتى من يظل منهم على قيد الحياة يصاب بالعديد من الإعاقات الخطيرة، ليضع عبئاً ثقيلًا على كاهل المجتمع وعلى الوالدين، ليقضي حياته مريضاً أو مشلولًا معاقاً، لابد أن نتساءل: هل من الصحيح إنفاق هذه الأموال الضخمة كي نمنح هؤلاء الأطفال حياة من المرض والإعاقة؟ إجابة هذا السؤال تختلف حاليّاً من بلد إلى آخر، ففي بريطانيا يحاول النظام الصحي توفير كل مساعدة ممكنة لهم، حتى من ولد منهم في الأسبوع الثالث والعشرين، أي بعد أربعة شهور فقط من الحمل. وإن كان هذا النظام نفسه لا يوفر لهم دعماً يذكر بعد تخطيهم سن الثامنة عشرة، ليصبحوا حينها عبئاً على والديهم ومجتمعهم، وليقضوا عمرهم في ظل ظروف صحية هي أقرب للموت منها إلى الحياة. أما في هولندا، فالسياسة الطبية والتشريع القانوني، لا يطلب من أفراد الطاقم الطبي تقديم يد المساعدة لمن ولدوا عند هذا السن، ليتركوهم يتوفون وفاة طبيعية، دون ألم، أو أدوية وحقن، ودون إعاقات. ويبني الهولنديون فلسفتهم هذه على أساس أن الطبيعة نفسها لم تمنح هؤلاء الأطفال أية فرصة للبقاء والحياة دون تدخلات طبية مركزة ومكثفة، غالباً ما تفشل في إنقاذهم. ولكن هذه الفلسفة لا تجدي نفعاً مع أم تحمل بين ذراعيها طفلها الذي لا يزيد وزنه عن نصف كيلوجرام، ويرفض الأطباء مد يد العون والمساعدة لإبقائه على قيد الحياة. ويتفاقم هذا الوضع في حالات العقم التي قضى فيها الزوجان سنوات، وأنفقا أموالاً طائلة، للحصول على طفل وذرية. وهذه الجوانب، وغيرها كثير، تظهر مدى تعقيد قضية الأطفال المبتسرين، وخصوصاً من ولد منهم عند خط الحياة أو بالقرب منه، وتؤكد مرة أخرى أن التطورات والاختراقات الطبية المتوالية والمتسارعة لا يمكن تقييمها فقط من المنظور العلمي، ودون الأخذ في الاعتبار المعضلات الأخلاقية والدينية، والتبعات المالية والاجتماعية، التي ستنتج عنها حتماً.