كتبت هذا المقال، وأنا في طريقي إلى تلك المنطقة من آسيا، التي اعتاد الأوروبيون أن يطلقوا عليها "الشرق الأقصى". عند زيارتي الأولى لسيؤول، عاصمة كوريا الجنوبية، منذ سنوات عديدة، لم يُسمح لي وزملائي من أعضاء الوفد الأميركي المشارك في مؤتمر كان مزمعاً عقده هناك، بمغادرة الفندق، بسبب مظاهرات الطلاب في الشوارع. وعند زيارتي الأولى لطوكيو، لم يُسمح لنا أيضاً بمغادرة الفندق بسبب مظاهرات المزارعين في الشوارع، احتجاجاً على عملية جارية لتوسيع مطار"ناريتا" - تبين فيما بعد أنهم كانوا على حق. في هذه الأيام تبدو الأمور هادئة في الشرق الأقصى. هناك بالطبع نظام كوريا الشمالية الغريب الذي لا يدري أحد كيف يتعامل معه. وهناك الصين التي تبدو مقتنعة بصيغتها السياسية القائمة على الاستقرار، والاطمئنان، والاقتصاد النامي على الدوام، والقوة العسكرية المتصاعدة. وهناك اليابان التي تخلت عن مركزها الأثير كثاني أكبر اقتصاد في العالم للصين - من دون أن تنتاب شعبها غضبة قومية- وتسعى في الوقت الراهن للمواءمة بين قاعدتها الصناعية القوية، وواقعها السكاني المخيف. أما سنغافورة، وماليزيا، وكوريا الجنوبية، وهونج كونج، وتايوان، فتمضي جميعها قدماً على طريق التقدم والرخاء.. ثم المزيد من التقدم والرخاء. وفي أثناء رحلتي لـ(قوس الرخاء) هذا تحكي لي الصحف التي ترافقني دوماً في سفري وهي "الفاينانشيال تايمز"، و"وول ستريت جورنال"، و"الإيكونوميست"، عن قصة أخرى: قصة الاضطرابات والقلاقل التي تنتقل من بلد إلى بلد في الشرق الأوسط. والتي بدأت بتصدع جدار الخوف قليلاً في تونس، ثم انهياره تماماً في مصر، الدولة المحورية في العالم العربي، ما أحدث موجات اهتزازية امتدت عبر منطقة شاسعة تبدأ من الجزائر غرباً إلى البحرين واليمن شرقاً. إننا نعيش الآن في عالم كان يمكن لأديب مثل شكسبير أن يصفه بأنه"عالم مفكك الأوصال". ففي أميركا اللاتينية تشير كافة التوقعات - إذا استطاعت الحكومات، والبرلمانات، والنخب المتعلمة أن تستوعبها - إلى مستقبل من الازدهار، والرفاهية، والاستقرار. وفي قارة أفريقيا وفي بعض من أكثر بلدانها فقراً، وهي تلك الواقعة جنوب الصحراء، هناك أيضاً بعض المؤشرات على أن المستقبل سوف يكون واعداً. أما أستراليا فهي تتمرغ في الأموال التي حصلت عليها من تصدير المواد الخام، والمواد الغذائية. أما أوروبا فهي تنساب مثل مياه نهر الدانوب الأدنى، متراوحة بين مناطق الرخاء البافاري الإسكندنافي، وبين مناطق المعاناة "الكلتية" واللاتينية حيث توجد اليونان والبرتغال وأيرلندا، ومن الممكن إسبانيا وإيطاليا أيضا. أما الولايات المتحدة فليس لديها - بصراحة - فكرة عن الوجهة التي ستأخذها؟ فهي أقوى قوة عسكرية في العالم، وصاحبة أكبر عجز موازنة في التاريخ في الوقت نفسه، وهي ودولة وضعت قواتها في المكان الخطأ والزمان الخطأ. وهي دولة لديها رئيس جيد يتم الصراخ في وجهه بغية إسكاته كلما قال شيئاً معقولًا أو شيئاً واقعياً. وصعود ما يعرف بحركة "حفل الشاي"، في أميركا، ليس مؤشراً على أمل بقدر ما هو نذير بالمزيد من الأفعال الغبية من قبل الكونجرس، الذي يبدو، على نحو متزايد، أنه يعيش في عالم منفصل من صنعه. عالم يعيش فيه متوحداً، غير مدرك أن زمن ترومان وأيزنهاور قد ولى، ولن يعود. باختصار، يمكن القول إن العالم يدخل للعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وهو يترنح حاملاً على كاهله عديد المؤشرات الدالة على أن الأمور في مجملها لا تمضي بشكل جيد. فهناك احتمال كبير، لوقوع مصر في أيدي "الإخوان المسلمين"، أما الجزائر فهي تمضي مترنحة إلى حيث تقودها قدماها. وهذه الاحتمالات ليست مؤكدة. إذ من الممكن أن تتحسن أحوال تلك الدول فجأة. فالعالم العربي- الإسلامي قد يستيقظ الأسبوع المقبل ويبدو مثل. دعنا نقول مثل الدانمرك! في الحقيقة، ليس هناك حل سريع لكل هذه التناقضات الهائلة. فمعدل نمو الاقتصاد الصيني تزايد بنسبة مذهلة هي 10 في المئة. أما الاقتصاد المصري الذي انخفض بفعل الاضطرابات والقلاقل الداخلية فقد ترنح، ثم سقط. فالمحتجون في شوارع القاهرة اليوم لم يعودوا يركضون وراء طغمة النظام السابق ، وإنما يركضون وراء أسعار غذاء رخيصة ومستقرة، وأجور أفضل، ووظائف أكثر، وهي كلها أشياء لا يستطيع نظام مفلس مادياً أن يوفرها لهم. يستطيع قادة مصر الجدد - بالتأكيد - أن يطبعوا المزيد من أوراق البنكنوت الملونة، ولكن عليهم هنا أن يتذكروا أن ذلك هو مافعله ملوك إسبانيا الإمبراطورية، وما فعله سياسيو جمهورية "ويمار" الألمانية وكانت العواقب وخيمة في الحالتين. أنا في الحقيقة لا أعرف ما هو الشيء الذي يمكن أن أخرج به من كل ذلك. وأي شخص يدعي أنه قادر، وبشكل لا يقبل الجدل، على التنبؤ بمستقبل هذا العالم، لابد أن يكون آفاقاً كبيراً. فدول العالم تمضي في اتجاهات عديدة، ومختلفة، ولكن المؤكد أن أكبر فجوة موجودة في الوقت الراهن، هي تلك القائمة بين الشرق الأقصى والشرق الأوسط. على أن ذلك يتطلب مني الافتراض،(وربما يكون ذلك خطأً مني) أن حكومات الصين، وروسيا، واليابان، وكوريا الجنوبية، ستمتلك من سلامة الحس ما يدعوها للتخفيف من حدة خلافاتها بشأن الحدود البحرية، وبشأن مبادلات الأراضي بعد الحرب العالمية الثانية، بحيث تتمكن تلك الدول في النهاية من العيش فيما يمكن اعتباره - جوهرياً- منطقة من الرخاء المتبادل. دول منطقة الشرق الأوسط، للأسف، ليس لديها هذا الحظ. فمما لا شك فيه أن هناك في الوقت الراهن مجموعة من التكنوقراط الجادين العاملين في البنك الدولي، أو برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يعكفون على إعداد تقرير جيد ذي عنوان جذاب مثل"الإصلاح والتعافي في العالم العربي"، يؤكد على أهمية الشفافية، والديمقراطية، وحكم القانون وما إلى ذلك من أمور، لا غنى لأي إصلاح أو تعاف حقيقي عنها. إنه لأمر طيب في الحقيقة أن يخطر على بال المرء أن الشرق الأوسط يمكن أن يحقق من دون تقلصات شديدة مؤلمة، أو نزيف دماء ما حققه الشرق الأقصى: أي أن يتحول إلى منطقة مستقرة سياسياً، ومزدهرة لحد كبير، لا يشغلها سوى كفاحها الداخلي من أجل التحول نحو الحداثة. ومثل هذا اليوم يمكن أن يأتي، ولكنني إذا ما كنت رجلاً مقامراً - وأنا بالفعل ذلك الرجل - فإنني سأقول إن كافة الاحتمالات تشير إلى عكس ذلك. فالمنطقة العربية أمامها فترة من الاضطرابات، التي قد لا يتمكن الغرب نفسه من النجاة من الكثير من تداعياتها غير المقصودة. وبما أن الأمر كذلك فلا تسألونني: لمن تقرع الأجراس؟ فلربما تقرع لكم أنتم. بول كنيدي أستاذ التاريخ بجامعة "يل" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"