من المفترض أن تدفع الاضطراباتُ السياسية التي تمور بها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا العديدَ من المسؤولين والمثقفين الغربيين إلى إعادة التساؤل بشأن عدد من المبادئ والأسس التي كانت توجه (على نحو سيئ) سياساتهم الدولية، وذلك على اعتبار أن العالم العربي كان يفترض أن يكون صامداً في وجه الديمقراطية، بسبب الحركات الإسلامية الراديكالية، التي كانت تمثل التهديد الاستراتيجي الأكبر. ومعلوم أنه بعد تحول حلم تغيير خريطة الشرق الأوسط إلى منطقة تنتشر فيها الأنظمة الديمقراطية بواسطة الحرب، انطلاقاً من العراق، إلى كابوس، أدت الواقعية إلى التكيف مع الأنظمة القمعية في المنطقة، التي كان يُحسب لها على الأقل لعب دور السد المنيع في وجه الحركات الإسلامية. وكان يوصف كل من يشكك في هذه العقيدة بالسذاجة أو يُتهم بسوء الحكم والتقدير. كما كان يُنظر إلى كل تفكير نقدي على أنه تواطؤ، ضمني أو صريح، مع الإسلاميين؛ بل إننا لم نكن بعيدين في بعض الأحيان عن الإرهاب الفكري. غير أن هذه العقيدة كان يعتريها عيب رئيسي كبير هو تركيزها المفرط على النتائج وتجاهلها للأسباب. فمما لا شك فيه أن الحركات الإسلامية الراديكالية كانت تشكل تحدياً خطيراً لأمن الغربيين وحلفائهم؛ ولكن ما هي الظروف التي ساعدت على نموها وازدهارها؟ وهل بالإمكان الاعتقاد بأنها تتعلق بظاهرة طبيعية أو جينية تضرب العالم العربي الإسلامي ربما، من دون أن نعرف لماذا؟ المروجون لهذه العقيدة يسكتون - عن قصد - عن حقيقة أن توسع الحركات الإسلامية الراديكالية كان على مدى فترة طويلة مدعوماً من قبل الغربيين أنفسهم وذلك بهدف التصدي لتطور القومية العربية التقدمية؛ وفي أحيان كثيرة، كنا – نحن الغربيين - نمنع أنفسنا من تحديد الأسباب الجيوسياسية (بدعوى أن فهم الشيء يعني إضفاء الشرعية عليه، وأن إضفاء الشرعية على شيء ما يعني قبوله)، لتطور الراديكالية الإسلامية، (استمرار نزاع الشرق الأوسط، وحرب العراق، وأخيراً طريقة لمحاربة الإرهاب لم تكن تؤد إلا إلى تطويره) إضافة إلى أسبابها السياسية (غياب العدالة الاجتماعية، والفساد، وغياب الأفق السياسي، والقمع، إلخ.) غير أننا بمحاربة تأثيرات الحركات الإسلامية الراديكالية من دون محاربة أسبابها نخلق سياسةً تتغذى من فشلها، الأمر الذي يؤدي بشكل حتمي إلى نتيجة عكسية للنتيجة المرجوة في البدء من تنظيم توسيع الحركات الإسلامية الراديكالية، مما يزيد من الحاجة إلى محاربتها، وبذلك نخلق دائرة مفرغة لا نخرج منها. أما العيب الآخر الذي يعتري هذا التفكير، فيكمن في حقيقة أننا ننسب للحركات الإسلامية الراديكالية الدورَ نفسه، الذي كانت تلعبه الشيوعية في الماضي: دور التهديد الكبير، الذي يمكن أن يطيح بنظامنا ويضع نهاية لديمقراطياتنا. ومما لا شك فيه أن هذا التوصيف كان يرمي إلى الحفاظ على ميزانيات عسكرية مهمة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولكن كيف لنا أن نقارن، من حيث التهديد، بين "القاعدة" من جهة، وملايين الأسلحة النووية السوفييتية، وملايين الجنود، وآلاف الدبابات والطائرات الحربية، واتفاقية فارصوفيا، من جهة أخرى؟ الواقع أن هذا الأمر أفضى إلى الخطأ الاستراتيجي نفسه – والخطأ الأخلاقي - الذي ارتُكب إبان الحرب الباردة؛ إذ باسم الدفاع عن الديمقراطية (التي كانت مهددة من قبل الشيوعية)، دعم الغربيون انقلاباً في إندونيسيا – أسفر عن مقتل 500 ألف شخص - مثلما دعموا "موبوتو سيسيسيكو " وحكاما مستبدين أفارقة آخرين، وكذلك وبينوشيه، بل وحتى نظام الأبارتايد. والحال أن هؤلاء لم يساعدوا أو يساهموا في الإطاحة بالشيوعية، بل على العكس، خدموا دعايتها من خلال نماذج الحكم السيئة التي كانوا يمثلونها. غير أنه من خلال الشفافية، ومقارنة الأنظمة التي سمحت بها، واحترام العالم الغربي للمبادئ التي روج لها، انتصرت هذه الأخيرة. وبالمثل، فإن القول بأن الاستقرار الذي كانت توفره أنظمة بن علي ومبارك والقذافي السلطوية شكل أفضل وسيلة حماية في وجه الحركات الإسلامية يعد خاطئاً؛ بل يمكن القول إن افتقار هذه الأنظمة إلى الشعبية بسبب ثلاثي الفساد والقمع وغياب العدالة جعل منها، من ناحية ما، عاملاً غير مباشر في توسيع وتقوية الراديكالية الإسلامية. واللافت أن الغربيين قبلوا بهذا الأمر لأن مجرد نطق كلمتي "الحركة الإسلامية" كان يؤدي إلى الشلل الفكري. وقد كان المارشال الفرنسي هيبرت ليوتي يقول: "عندما أسمع صوت أحذية الكعب العالي، أرى العقول تنغلق". والحال أنه لم يعد ينبغي أن تنغلق العقول عند مجرد الإشارة إلى الحركات الإسلامية، بل ينبغي على العكس من ذلك فتحها. ومما لا شك فيه أن العدالة الاجتماعية والشفافية والانسجام في احترام مبادئ نقول إننا نشجعها ونروج لها هي الطريقة الأفضل لمحاربة الحركات الإسلامية الراديكالية على نحو فعال. وهي أيضا الطريقة الأفضل، والسبيل الوحيد لاستعادة ثقة السكان الذين بدلًا من أن يرفضوا قيمنا مثلما يردد البعض، فإنهم يحتضنونها، ولكنهم يطالبوننا بأن نكون منسجمين في تطبيقها.