كم تغيرت تونس في شهرين فقط، هما الفترة القصيرة التي مضت على انهيار نظام "بن علي": اعتقال أو إقصاء كل رموز الحقبة الماضية، تعليق الحزب الحاكم منذ استقلال البلاد، الاعتراف بأكثر من عشرين حزباً سياسياً جديداً، عفو تشريعي عام وعودة عشرات السياسيين من المنفى، انفتاح الإعلام العمومي وتحرير الصحافة المكتوبة. في هذه الفترة القصيرة، شكلت حكومة ائتلافية أسقطها الشارع الثائر الذي أطاح ببن علي. علق أحد الظرفاء على الثورة بالقول"إن بن علي أسقط بورقيبة فأسقط شارع بورقيبة بن علي". غادر التكنوقراطي الهادئ "محمد الغنوشي" المسرح السياسي بعد أن فشل في كسب ثقة الجمهور الهائج. لم يكن الرجل الذي لا يشك أحد في نظافته وإخلاصه مهيأ لتسيير المرحلة الانتقالية التي تتطلب حنكة السياسي أكثر مما تطلب مهارة الخبير الاقتصادي. خطأ الغنوشي الكبير أنه توهم أن المشكلات السياسية تحل بمنطق الإصلاحات القانونية والمؤسسية ،التي ليست في الواقع سوى صياغات بعدية للتوافقات السياسية. استبدل الغنوشي بالسياسي الثمانيني ذي التجربة الطويلة في العمل العمومي منذ انخراطه المبكر في العمل النضالي داخل حركة التحرر، التي تزعمها الحزب الدستوري الجديد بزعامة "بورقيبة" الذي تولى في عهده حقائب الخارجية والداخلية والدفاع. أظهر رئيس الحكومة الجديد منذ تصريحاته الأولى قدرات ملموسة على التواصل مع الشارع التونسي ومع القوى السياسية والمجتمعية المختلفة. بدا "الباجي قائد السبسي" واعياً بسقف المطالب الشعبية المرتفعة وبحجم القطيعة الجذرية المطلوبة مع العهد السابق، وبضرورة إشراك مختلف الفاعلين في إدارة المرحلة الانتقالية. أدرك بجلاء أن صيغة الحكومة السياسية الائتلافية المتكونة من فلول التجمع الدستوري وبعض تشكيلات معارضته "الشرعية" غير قادرة على تأمين معادلة الاستقرار السياسي، التي تقتضيها المرحلة الراهنة، التي ستشهد إعادة بناء النظام السياسي التونسي بكامله. والواقع أن المشهد السياسي التونسي تغير بالفعل جذرياً، وإن كان لا يزال في طور المخاض العسير، ولم تتشكل معالمه الثابتة النهائية. ومن المعروف أن هذا المشهد تمحور منذ تكريس التعددية الحزبية في بداية الثمانينيات حول خمسة أقطاب سياسية رئيسية، على الرغم من هيمنة الحزب الحاكم والقيود الخانقة المضروبة على التشكيلات المعارضة. وهذه الأقطاب هي: أولًا: الحزب الدستوري الذي قاد البلاد إلى الاستقلال، وخضع لمراجعات إيديولوجية وتنظيمية متلاحقة منذ تأسيسه عام 1920 على يد "الشيخ عبد العزيز الثعالبي"، قبل أن يتزعمه "الحبيب بورقيبة" عام 1934 ويحوله إلى حزب الدولة الوحيد بعد الاستقلال. وعلى الرغم من الواجهة التعددية المعلنة، ظل الحزب مهيمناً على هياكل الدولة في عهد "بن علي"، الذي حوله إلى أحد أهم أجهزة نظامه الاستثنائي. ثانياً: القطب الليبرالي الوسطي الذي تمحور حول "حركة الديمقراطيين الاشتراكيين"، التي أسستها عام 1978 وجوه سياسية معروفة منشقة عن الحزب الدستوري من أبرزها الوزير الأسبق "أحمد المستيري"، الذي عارض الميول الاستبدادية والزعامة الفردية لبورقيبة، واعترض على قرار تعيينه رئيساً مدى الحياة. وبعد الانقلاب الذي أحدثه "محمد مواعدة" في بداية التسعينيات داخل الحزب بدعم من النظام الحاكم الذي أصبح من أشد مؤيديه، أسست بعض قيادات الحركة حزباً جديداً باسم "التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات" يرأسه الطبيب والناشط الحقوقي "مصطفى بن جعفر"، الذي ظل معارضاً لبن علي والتحق بحركة الثورة الشبابية التي أطاحت به. ثالثاً: القطب "اليساري" العريق في الحياة السياسية التونسية منذ منتصف القرن الماضي. وقد تمحور تاريخياً حول "الحزب الشيوعي التونسي"، الذي غير عام 1993 تسميته إلى "حركة التجديد"، التي يرأسها حالياً الأستاذ الجامعي"أحمد إبراهيم" الذي استقال الأسبوع الماضي من الحكومة الانتقالية. وعلى يسار هذه الحركة "حزب العمال الشيوعي التونسي"، الذي تميز بنشاطه الكثيف في الأوساط الجامعية على الأخص رغم حظره، ويتزعمه راهناً "حمة الهمامي". رابعاً: القطب الإسلامي المتمحور حول "حركة النهضة"، التي تحولت منذ تأسست عام 1981 إلى رأس الحربة في معارضة نظامي بورقيبة وبن علي. وقد أثبتت انتخابات 1989 البرلمانية التي شاركت فيها الحركة بلوائح مستقلة أنها كانت آنذاك التشكيلة المعارضة الأولى في البلاد. وقد تعرضت الحركة للقمع الشديد منذ بداية التسعينيات، وحصلت لأول مرة على الاعتراف الرسمي في الأيام الماضية. خامسا: القطب القومي العروبي الذي شكل تاريخياً الاتجاه المناوئ للبورقيبية داخل حركة التحرر وداخل الحزب الدستوري قبل إقصاء ثم اغتيال رمزه "صالح بن يوسف" الذي تنافس مع بورقيبة على زعامة الحزب. ومن أبرز الأحزاب القومية النشطة "حركة الديمقراطيين الاشتراكيين"، التي أسسها عام 1981 المحامي"أحمد نجيب الشابي"، الذي انضم في شبابه على غرار الكثير من مثقفي الجنوب التونسي إلى التيار البعثي. ومع أن هذه الأقطاب لا تزال تشكل محاور الخريطة السياسية التونسية، إلا أن الخروج المفاجئ والعنيف من العهد الاستثنائي قد انجرت عنه نتيجتان بارزتان هما: أولًا: تفكك وتجزؤ الأقطاب السياسية بانبثاق ما يزيد على أربعين تشكيلة جديدة، حصل بعضها على الترخيص القانوني والآخر في الطريق. ففضلًا عن النتائج المرتقبة عن حل الحزب الحاكم السابق (كنشوء حزب دستوري جديد يحافظ على الرصيد التاريخي للبورقيبية)، فإننا شاهدنا مؤخراً ظهور حزبين إسلاميين جديدين منافسين لحركة النهضة، وظهور أربعة أحزاب بعثية بأسماء متقاربة وحزبين ماركسيين. فكيف ستتجسد هذه الخريطة الحزبية في المشهد الانتخابي القادم؟ ثانياً:تميزت الحالة التونسية عربياً في الماضي بالدور السياسي النشط للمجتمع المدني الذي تمحور حول "الاتحاد العام التونسي للشغل"، التي نافست الحزب الدستوري المشروعية التاريخية والفاعلية التنظيمية. ويبدو من الواضح حالياً أن المركزية النقابية تعيش صراعاً إيديولوجيا وتنظيميا حاداً تعود جذوره للقطيعة التي حدثت في عهد بن علي بين قيادتها الداعمة للنظام وهياكلها القيادية غير المدجنة. فهل ستتفق مكوناتها المتنافرة على برنامج سياسي مشترك ومرشح موحد للرئاسة، أم ستتقوض وحدتها بفعل الحراك السياسي الجارف؟