كل خطايا ومضحكات الإعلام العربي في السابق لا تقاس إطلاقاً بما يحدث هذه الأيام، والشارع يلتهب، والشعارات المتعددة تزداد سقوفها، والضحايا الذين لا يعرف عددهم يتساقطون بالآلاف حسب قناة تلفزيونية وبالمئات حسب قناة أخرى، وبالعشرات كما يذكر مراقبون محايدون، اختلط حابل الإعلام بنابله، وأصبح المعارضون محللين سياسيين وعسكريين في مخالفة للعرف الإعلامي الذي يقول بأن المحلل السياسي يجب أن يكون محايداً ما أمكن هذا، أو يصبح معارضاً وله أن يقول ما يشاء. إعلام السنين السابقة في أمة العرب كان يحمل قدراً من المضحكات المبكيات بسبب التغطية الإعلامية الشحيحة إلا ما يصدر من الجهات الرسمية وهو على كل حال نادرٌ و"مفبرك" إلى الاتجاه الذي تريده تلك الجهات، عمل الإعلام في ظل هذا الواقع وفي ظل انقسام العالم إلى معسكرين وفي ظل انقلابات عسكرية عربية تقوم بين المحيط والخليج كل شهر تقريباً، إعلام أسكت كل شيء وهو يتصدى لعدو صهيوني، وما زاد إسرائيل ذاك التصدي الواهن إلا قوة! وعندما أصبح العالم قريةً صغيرة، وأتت كل أخبار العالم وأحداثه في ثوان إلى المتلقي عبر نقرة على "ماوس" الأجهزة الإلكترونية، لم يعد بالإمكان الرجوع إلى الخلف، كتلك الأيام عندما كان أحمد سعيد في "صوت العرب" بالقاهرة يذيع للعالم إسقاط نصف السلاح الجوي الإسرائيلي في خلال نصف ساعة، بينما كانت الأراضي العربية في سيناء والجولان والضفة الغربية من نهر الأردن تتساقط سريعاً في أيدي العدو. ولكن الإعلام العربي وبطريقة عجائبية قادرٌ على إعادة تلك الأيام ومجرياتها الإعلامية بصيغ أخرى مختلفة تعتمد على العاطفة الجياشة لدى العرب وصعوبة تحليل الرسائل الإعلامية المتدفقة والمنتقاة، فالأمية متفشية وأنصاف المثقفين كُثر والصفوة والنخب الأخرى مؤدلجة مثلما هو حال الخمسينيات الميلادية وما بعدها بعقد مع الفارق الظرفي... عدا حفنة قليلة لديها القدرة على التحليل والفرز الإعلامي في هذا الجو من الصخب، إلا أنها صامتة تخشى النقد وهيجان الشارع... والتلفاز. قبل أيام أذاعت محطات التلفزة العربية صوراً قالت إنها ترصد إطلاق النار من قبل الشرطة البحرينية على متظاهرين من طائفة معينة، كانت تلك اللقطات مضحكة ومفضوحة لأي شخص قادر على الفرز بين الحقيقي وغير الحقيقي، المحتجون يظهرون في الصور وقد حملوا علم بلادهم وصور زعماء آخرين خارج الحدود، وعددهم لا يتجاوز (10) متظاهرين وفي شارع فسيح وفجأة يتساقط عددٌ منهم إثر ما قيل إنه إطلاق نار حي عليهم، ولكن الصور كانت فاضحة وفيها الكثير من التمثيل، فصرعى المواجهة كانوا وهم في الأرض يشيرون برؤوسهم للمصور أن يسارع ويلتقط "مصارعهم"، وعندما لاحظوا أن الكاميرا أخذت توجه لهم عدستها عادت رؤوسهم لحالة "الموت"... التليفزيوني. أنا مع الكثيرين الذين لا يحبون العقيد القذافي ويريدون إزاحته في أقرب وقت، ولكن التغطية الإعلامية لأحداث ليبيا كانت هي الأخرى سقطة للإعلام المرئي العربي، كان المحتجون حسب هذه القنوات وفي داخل العاصمة الليبية يتساقطون من أثر الغارات الجوية عليهم كما ذكرت المصادر الإعلامية ذاتها، في الوقت الذي يمكن لأي خبير مبتدئ في حروب المدن أو الحروب التقليدية أن يفند هذه الادعاءات فلا يمكن تفريق المتظاهرين عبر السلاح الجوي النفاث دون أن يتسبب هذا بكارثة في المباني وكل المنشآت، وهذا ما قرره عياناً سفراء الدول الأجنبية في طرابلس حسب مشاهداتهم ومعايشتهم للوضع هناك، وحسب ما نقلته وكالات الأنباء العالمية! الغريب أن مسألة القصف اختفت فوراً من شاشات التلفاز العربية بعد نفي السفراء الغربيين لذلك! كان يمكن أن يقال -وفي ذلك حقيقة- إن أمن الزعيم القذافي كان يطلق النار على المتظاهرين، أو أن السيارات الأمنية تداهم المعارضين، أو أن صواعق كهربائية يحملها أمن النظام في يديه تقتل هذا المحتج أو تصيب آخر، ولكن قصة الطائرات التي تقصف المدنيين المحتجين ذكرتنا ونحن في العصر الفضائي والوسائط الحديثة بمن كان يدير برامج مثل "صوت الجماهير" و"حقائق وأباطيل" وغيرها من عنتريات المد القومي غير الرشيد قبل ستين عاماً. إن ليبيا، حسب أكثر الخبراء الجغرافيين والباحثين في علم السكان تختلف عن مصر وتونس، فمن يتحكم في ميدان التحرير بالعاصمة المصرية يملك القاهرة، ومن يحكم القاهرة يحكم بلاد النيل تقريباً، أما ليبيا فبلاد شاسعة، سقط شرقها وغربها لا يزال في يد النظام العنيف، فنشأ إثر ذلك واقع جديد إضافة للمشهد القبائلي والنفطي الذي زاد الواقع الليبي التباساً، وبهذا فإن من التبسيط للمشاهد أن يقال إن سقوط بنغازي في أيدي المتظاهرين يعني سقوط ليبيا بالكامل في أيدي المعارضين لملك ملوك إفريقيا، ولكن الحالة العربية يمكن أن تصغر مساحة الدول وتقلل وتُعاظِم سكان هذه المدينة أو تلك. في خطبة للعقيد القذافي أثناء الأزمة الحالية التي تمر بها بلاده وفوق شرفة تطل على الساحة الخضراء في العاصمة طرابلس أخذ الزعيم يقول كلاماً لطالما سمعناه منه سابقاً، كلاماً سابقاً كان محل تقدير من بعض القنوات الفضائية العربية التي لطالما أطلقت عليه حينها "أمين القومية العربية" وقائد الفاتح من سبتمبر العظيم، نفس القنوات التي تصفه الآن بالطاغية والسفاح! في تلك الخطبة التي تفتقد للعقل والبصيرة والرحمة قال ضمن كلامه "عندما لا يحب الشعب الليبي معمر القذافي فإن معمر لا يستحق الحياة" كلام ساذج وممجوج ويمكن الرد عليه بسهولة، كان يمكن أن يقال إن الشعب الليبي يتظاهر الآن ضده وإن هذا معناه أنه لا يحبه بل يكرهه ويطلب رحيله. كان يكفي هذا أو غير ذلك من الردود، ولكن فضائياتنا العربية قلبت كلام ملك ملوك إفريقيا بحيث أصبح "إن الشعب الذي لا يحب معمر القذافي لا يستحق الحياة"! أي أن الشعب الليبي حين أخذ يكره رئيسه الذي مضى عليه في سدة حكم بلاده أكثر من أربعة عقود لا يستحق الحياة بل الموت من قبل المكروه. لم يقل هذا من كان يطلق عليه من قبل القوميين العرب "أمين القومية العربية" وتنبهت الفضائيات لهذا التزوير غير المبرر عندما أعادت إذاعة الخطاب مرة أخرى، وثبت أن المعنى قد قُلِبَ بقصد ومن خلال سقطة إعلامية لا لزوم لها، فكلام العقيد الأخير وأفعاله تُغني عن هذا التلفيق الفضائي العجيب والواضح. أما الأدهى والأكثر سقوطاً للإعلام الفضائي العربي فليس إلا ذاك الانتقاء في عرض الأحداث، فمظاهرة معارضة تقدر بـ (10) آلاف تبرز، ومظاهرة أخرى مؤيدة بهذا العدد أو أكثر أو حتى أقل تحجب ولا تمر عليها الكاميرا وعرض الأخبار إلا سريعاً... هذا إن قدم الخبر أصلاً. أما الشهداء فكتابهم كبير وصفحاته كثيرة يدخل في هذا من أحرق المحلات التجارية والمصالح الحكومية والسيارات الخاصة ثم قتل برصاص أمن النظام... الغادر! نحن في هرج ومرج إعلامي فضائي ومكتوب سيبقى معنا ما بقي هرج ومرج الشارع، والظاهر ألاَّ فروق بين الاثنين، والدليل ما تسمعون وتقرؤون وتشاهدون.