جاء إلى ميدان التحرير وخاطب مئات آلاف الجماهير التي امتلأ بها الميدان، قائلاً إنه يستمد شرعيته منهم لأنهم أصحاب الشرعية. إنه رئيس الوزراء المصري المكلف عصام شرف الذي وصل الميدان عقب صلاة الجمعة وألقى كلمة حماسية استهلها بتوجيه التحية إلى شهداء الثورة، وقال: "أتمنى أن أرى مصر حرة وأمن المواطن فيها على القمة، وأن تكون أجهزة الأمن خادمة للمواطن والوطن"، وأن يكون "الرأي فيها خارج الزنازين". وكانت الاحتجاجات قد تواصلت في مصر بعد تنحي مبارك من الرئاسة، حيث استمرت جموع الشباب المحتجين في مطالباتهم بإقالة رموز النظام السابق، لكن تجمعهم يوم الجمعة الماضي تحول إلى احتفال كبير بخبر تعيين شرف. فمن هو رئيس الوزراء المصري الجديد؛ سياسياً ومهنياً؟ عصام شرف، سياسي ووزير سابق وأستاذ للهندسة، وقد سبق أن برز اسمه عدة مرات، سواء حين عُين وزيراً للنقل والمواصلات ضمن أول حكومة يشكلها أحمد نظيف في عهد مبارك عام 2004، أو عقب استقالته منها في العام التالي، أو خلال مشاركته في اعتصامات ميدان التحرير، أو لدى تكليفه من المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم الخميس الماضي بتشكيل حكومة جديدة عقب استقالة حكومة تسيير الأعمال برئاسة اللواء شفيق. ولد عصام شرف في محافظة الجيزة عام ‏1952‏، بالتزامن مع قيام ثورة يوليو التي غيرت الكثير من أوجه الحياة في مصر، وحصل على بكالوريوس الهندسة المدنية من جامعة القاهرة عام ‏1975‏، وعلى الماجستير في هندسة النقل من جامعة "بيردو" بالولايات المتحدة عام ‏1980، ثم على شهادة الدكتوراه من نفس الجامعة عام ‏1984.‏ وأمضى شرف سنين طويلة من حياته في المجال الأكاديمي، بداية من جامعة بيردو حيث عمل أستاذاً زائراً خلال عامي 1984 و1985، وبعدها عُين في عام 1986 أستاذاً مساعداً بكلية الهندسة في جامعة القاهرة، قبل أن ينتقل عام 1991 للعمل أستاذاً مساعداً بكلية الهندسة في جامعة الملك سعود بالمملكة العربية السعودية، ليعود بعدها إلى جامعة القاهرة حيث أصبح أستاذاً لهندسة الطرق منذ 1996 وإلى الآن. وللدكتور شرف نحو 140 بحثاً في مجال تصميم وصيانة الطرق ونظم تحليل حوادث المرور، وهو حاصل على جائزة الدولة التقديرية ثلاث مرات، وعلى جائزة رفيق الحريري، وجائزة التميز في أميركا، كما أنه أحد مؤسسي جمعية "عصر العلم" التي تضم البرادعي وزويل. وكان شرف أحد أعضاء نقابة المهندسين الذين ناضلوا من أجل رفع الحراسة عنها، رافضاً ما قيل حول الخشية من سيطرة "الإخوان" على النقابة. وقد وصفه أحد أعضاء "مهندسون ضد الحراسة" بأنه "شخصية وطنية رائعة، وخبرة في إدارة الأزمات". وخلال 18 شهراً قضاها وزيراً للنقل والمواصلات، حاول شرف تنفيذ خطط لتطوير النقل، كان أبرزها "مشروع إيزنهاور" الرامي إلى ربط مصر عبر شبكة طرق سريعة، لكنه استقال من الوزارة في ديسمبر 2005، لأسباب منها إدراكه عدم وجود إرادة سياسية لحل أزمات النقل في مصر، خاصة بعد حادث قطار قليوب، علاوة على خلافات مع "نظيف". هذا فضلاً عن ضغوط من رجل الأعمال ممدوح إسماعيل، الذي رفض شرف تدخلات لصالحه في سير التحقيق حول واقعة اصطدام عبارة "السلام 98" المملوكة لإسماعيل بناقلة بترول قبرصية في أكتوبر 2005. وكان شرف من الوزراء السابقين القلائل الذين أيدوا علناً احتجاجات ثورة 25 يناير المطالبة بتنحي مبارك، وكان بين ثلاثة آلاف أستاذ جامعي أعلنوا في الثامن من فبراير المنصرم انضمامهم للمعتصمين بميدان التحرير في المطالبة بإصلاح سياسي عاجل، وحل مجلسي الشعب والشورى، وبإجراء انتقال سلمي وسريع للسلطة في مصر. ورغم أنه كان مسؤولاً في نظام الحكم وعضواً بلجنة سياسات الحزب الوطني الحاكم، فإنه لم يكن على وفاق تام مع "نظيف"، كما لم ينسجم مع حكومة رجال الأعمال، ولم يكن أسلوب عمله يعجب القائمين على صناعة القرار في الحزب، خاصة أنه كان يدقق في جميع الطلبات الاستثمارية، ويصر على أن تكون الدولة شريكاً إلى جانب المستثمر حتى لا يستأثر الأخير بالقرارات لنفسه. وقد صرح لإحدى الصحف عقب مغادرته مقاعد الحكومة بأن تخصيص 5 مليارات جنيه كاعتمادات استثمارية لهيئة سكك حديد مصر خلال الخطة الخمسية 2002-2005 هو السبب وراء كوارث قطارات مصر، كما أنه نتاج لعدم الثقة وسوء التخطيط الحكومي. ومن آرائه المعروفة في هذا الخصوص أن مصر تتكبد سنوياً حوالي ملياري دولار كخسائر جراء حوادث الطرق، كما تخسر نحو 25 ألف شخص، وأنه لذلك السبب يتعين وجود كيان واحد يتولى التخطيط للنقل وليس قطاعات منفصلة عن بعضها البعض كما هو الحال عملياً. وصبيحة السبت الماضي، بدأ الدكتور شرف مهام منصبه الجديد في مقر مجلس الوزراء، فعقد أول لقاءته بأعضاء حكومة تسيير الأعمال الحالية. لكن الصحافة الإسرائيلية الصادرة في نفس اليوم عجّت بمقالات تحذر من خطر رئيس الحكومة المصرية الجديد على مصالح إسرائيل مع مصر، قائلة إنه رجل ثوري، وقد عارض الفساد خلال العهد السابق، ويحظى بقبول شعبي واضح، ويتبنى مواقف رافضة للتطبيع. وكان شرف قد تحدث لجماهير ميدان التحرير عن انتهاء "الجهاد الأصغر" وبدء مرحلة "الجهاد الأكبر"، ملمحاً إلى التحديات التي تنتظر حكومته خلال الفترة الانتقالية، سواء بالنظر إلى قصر هذه الفترة (ستة أشهر)، أو لجهة ارتفاع سقوف مطالب الجماهير يوماً بعد آخر. فهناك ملف الأمن، بما فيه إعادة الشرطة إلى الشارع، وبناء الثقة مجدداً بينها وبين المواطنين، والبت في مصير جهاز مباحث أمن الدولة، والمطالب المتزايدة بإلغاء قوانين الطوارئ والإفراج عن المعتقلين. كما يمثل الاقتصاد تحدياً جسيماً آخر، لاسيما على خلفية الخسائر التي تكبدتها البلاد خلال الأسابيع الأخيرة، والمطالب الفئوية المرتبطة باحتجاجات عمالية في أنحاء مختلفة. هذا إلى جانب متابعة تنفيذ الإصلاحات السياسية والاستماع إلى آراء القوى المختلفة بشأنها، وضرورة التواصل مع الشباب المحتجين الذين حملوه على الأعناق في ميدان التحرير قائلين "نحن معك". علاوة على ملف الغاز المصري المصدّر إلى إسرائيل تنفيذاً لصفقة حفّتها شبهات متعددة، ورفضتها ثورة 25 يناير، وأبطلتها من قبل أحكام قضائية واجبة النفاذ. وأمام هذه الصعاب والتحديات الجسام، يحتاج مهندس الطرق عصام شرف إلى خريطة طريق واضحة تضمن له مخارج آمنة نحو آمال الثورة وقد علّقتها عليه، ومسؤوليات المرحلة وقد أسندها الجميع إليه! محمد ولد المنى