تجوَّل الكاتب الصحافي المصري "عبدالله إمام" خلال سنوات ما قبل الإطاحة بالنظام الملكي في ليبيا، وتنقل بين مدنها الساحلية وواحاتها ومناطقها الحدودية، وأصدر مع قيام "النظام الجمهوري" كتاباً بعنوان "الشارع الطويل... ليبيا". وكتب مرحباً بـ "أحدث جمهورية تدخل الصف العربي المتحرر"، بأنه قام بهذه الرحلة الصحفية بالطريق البري "لأعيش في كل قرية وكل مدينة أكبر وقت ممكن". وكما فوجئنا اليوم بالثورة الليبية، التي جاءت في ركب سلسلة الثورات والانتفاضات التي توالت بعد ثورة تونس، كتب الصحفي المعروف يقول، "كنا نسمع كل يوم عن انفجار بئر بترول جديد في ليبيا. وكان كل ما يتوقعه الناس أن يسمعوا عن انفجارات جديدة لآبار البترول. ولم يكن أحد يصدق أن ثورة يمكن أن تنفجر بهذه السرعة". ركب "إمام" سيارة مصرية متجهة إلى ليبيا من مدينة السلوم. وفي طبرق واصل السير إلى بنغازي. المدينة ظهرت قبل 2500 سنة، وفي سنة 1450، نزل في المدينة التي كان اسمها "برنيق" رجل اسمه غازي استوطن المدينة وتوفي ودفن بها، وأطلق على المدينة "بني غازي"، ثم ما لبثت الكلمة أن أصبحت "بنغازي"، وأصبحت عام 1953 إحدى عاصمتي المملكة الليبية المتحدة. "بنغازي العاصمة الثانية للبلاد مدينة فيها أحياء راقية، فيها بيوت وفيلات للعظماء، فيها فنادق درجة أولى فاخرة، فيها قنصليات وفروع لكل السفارات، فيها معالم سياحية. وإلى جوار كل ذلك تحس بالتناقض الذي تعيش فيه بلاد ثراؤها ليس لأبنائها بحق وعدل. أزمة الإسكان الطاحنة والمدمرة جعلت الناس معظمهم يعيشون في أكواخ حول المدينة. أزمة الإسكان في ليبيا شيء مختلف، إذا توفر أي مسكن فإن إيجاره فوق طاقة أي فرد عادي". وتحدث "إمام" عن تطور الدعوة السنوسية الذي ولد صاحبها "محمد بن علي السنوسي الإدريسي" في قرية مستغانم بالجزائر عام 1787 وتوفي عام 1858. وتحدث بعد ذلك عن شوارع مدينة بنغازي وقال: "المدينة بها شارع واحد طويل اسمه شارع عمر المختار. وكل شارع مهم في ليبيا يحمل اسم عمر المختار. في نهاية الشارع، الحي العربي. ويبدأ بشارع سوق الظلام. الشارع الضيق صاخب.. صاخب.. إذاعة صوت العرب تنطلق من أجهزة الراديو، والناس يتمايلون مع الأغاني المصرية يساومون ويشترون. الغلاء هنا لا يكاد يطاق. لقد كان أهم ما يميز ليبيا حتى عهد قريب كثرة المراعي وتربية الأغنام، حتى أننا كنا نستورد اللحوم من ليبيا. أما الآن فقد تدخل البترول، وهجر الناس المراعي، وارتفع سعر اللحم، وأصبحت ليبيا تستورده أيضاً. مدينة بنغازي ضيقة مُنهكة تنوء بما تحمله من أثقال. الفنادق كلها مزدحمة، أسعد الناس هنا هم التجار وأتعسهم الموظفون". هذه المدينة من المدن العربية القليلة التي عايشت ظروف الاحتلال والدمار خلال الحرب العالمية الثانية. مدينة بنغازي تعرضت خلال سنوات الحرب لأكثر من 1200 غارة، وتبادلت احتلالها قوات المحور والحلفاء خمس مرات. الجامعة الليبية تقدم تعليمها للطلاب مجاناً، و"التعليم يطفر طفرات شديدة". هناك نوع غريب من المدارس، 14 مدرسة لأبناء البادية: "المدارس في أماكن بعيدة في الصحراء يترك فيها البدو أولادهم الذكور ليتعلموا في الداخلية بالمجان". طرابلس" كانت آنذاك، كما رآها الصحفي الرحال، مدينة تناقضات: "البارات كثيرة مليئة بالرواد، والمساجد كثيرة مليئة بالمصلين. المرأة المحجبة تسير بجانب المرأة السافرة التي ترتدي البنطلون والقبعة والنظارة الأميركية السوداء. الناس محافظون متدينون، والشوارع الواسعة تموج بهذا الخليط المتناقض المتنافر من الناس والأشياء.. طرابلس أكبر مدينة، لذلك فإن عدد الأجانب فيها أكثر". وصل عبدالله إمام إلى طرابلس بالطائرة. ألقى بحقائبه في الفندق وخرج مسرعاً إلى الشارع. الأجانب الإيطاليون وغيرهم ما زالوا يحتفظون بكل شيء، "وظائف كثيرة في الشركات لهم، مكاتب كثيرة افتتحوها، بناتهم في أعمال كثيرة متنوعة، طريقة حياتهم لم تتغير، الفاشية الإيطالية تجري في أعماقهم. كل أبناء طرابلس الذين عاشوا سنوات الاستعمار يتكلمون الإيطالية، وكل أبناء طرابلس الذين عاشوا سنوات الاستقلال لا يتكلمون إلا العربية. البنت الإيطالية المتحررة تصادق من تشاء وتتحدث مع من تشاء من السكان، ولكنها لا تتكلم مع العربي ولا تصادقه. في ولاية طرابلس يسكن 92 في المئة من الأجانب في ليبيا بينما يسكن في برقة 7 في المئة. صدر في ليبيا قانون يمنع تملك الأجانب، وأعطى الأجانب الذين يتملكون فعلاً مهلة لبيع ما لديهم وتحويل أموالهم للخارج، الحكومة تشتري الأرض لتعطيها للفلاح الذي يدفع والبنك الزراعي يقرض للفلاح نصف ثمن الأرض". من أبرز ما لفت نظر إمام "قاعدة هويلس" الأميركية التي تبعد أربعة أميال عن المدينة، واليهود الذين "يسيطرون على الجزء الأكبر من التجارة والاقتصاد". ترك "إمام" طرابلس إلى ولاية فزان غربي البلاد. سافر جواً في طائرة قديمة متهالكة، يقول، "أشبه بأتوبيس قديم"! في ولاية فزان على حدود صحراء الجزائر، زار إمام "مدينة غريبة اسمها غات". سكانها من القبائل كالطوارق والبتو، وقد ضربتها فرنسا بالقنابل مرتين انتقاماً لدورها في تهريب الأسلحة لمقاتلي الجزائر. المدينة عادية جداً في النهار، ولكن هذه الحياة العادية تنقلب رأساً على عقب في الليل، فكل الناس يسهرون ويسمرون! "ليل المدينة رقص وغناء.. الخيول ترقص، والجمال ترقص، البنات يرقصن، والشباب يرقصون، والشيوخ يغنون ويقرعون الطبول. أي غريب يزور المدينة يُدعى إلى حفلها الراقص ويكون ضيف الشرف، فالتقاليد تقضي أن يقيموا لأي غريب يزورهم حفلة راقصة". بلدة أخرى عجيبة زارها "إمام"، في أعماق الصحراء اسمها "مرزق"، وهي قرية صغيرة بها قلعة ومقابر تركية، وأشلاء كثيرة لضحايا الحروب التي مرّ عليها أكثر من قرن! مهور الزوجات في ليبيا مرتفعة جداً. البنات كثيرات في المجتمع الليبي، "ولكن القانون جعل الحديث معهن جريمة عقوبتها السجن! وهرب الشباب من المعركة، وتسللوا إلى الخارج، وراحوا يستوردون الزوجات، ودخلت السوق سلعة جديدة، لها ميزات عديدة.. رخيصة، ومكشوفة، وتختارها بنفسك!" لا وجود للمرأة الليبية - آنذاك - في المجتمع والمدن والحياة العامة. "وقال لي السكان جميعاً إنها ما تزال هناك، بعيداً جداً، خلف الأسوار العالية". حاول "إمام" زيارة "معهد المعلمات"، واكتشف أن المعهد تحوطه أسوار عالية وله باب حديدي ضخم، وبابه الداخلي أشبه بأبواب قلاع العصور الوسطى. جاءت "الفرّاشة". لم نر وجهها ولا يديها.. وإنما رأينا كتلة من الأردية البيضاء أمامنا. كان إمام برفقة صديق ليبي رتب له الزيارة. أذنت الفرّاشة لهما بالدخول لمقابلة المديرة المصرية، بعد أن "فضوا السكة"، وتم تحذير الطالبات وإبعادهن. "وكان في ذهني سؤال: هل يسمح للمفتش بالدخول... وعرفنا الرد، أن المفتش يخوض نفس تجربتنا حتى يصل إلى مكتب المديرة، ويستدعي المدرِّسة - أي لا يسمح له بدخول الفصول - فإذا كانت المدرِّسة ليبية، فإنها تكلمه وهي محجبة لا يرى وجهها، ولا حتى عينيها ... ثم يعود أدراجه .. إلى الخارج ... قالت المديرة: عندنا 45 مُدرسة بينهن 3 ليبيات، و10 فلسطينيات وأردنيات، وبقية المدرسات مصريات". مشكلة المرأة لم تكن مع العزل والحجاب المبالغ فيه، بل حتى في الزواج حيث لا يرى الرجل زوجته إلا ليلة الزفاف. لكن لماذا ينبغي أن "تتحرر المرأة"، وأن "يسمح لها بالعمل خارج بيتها"؟ هذا، يقول إمام، "يؤدي إلى زيادة الإنتاج... وفي الوقت نفسه فإن ما تحصل عليه المرأة من مال يقوي الطلب ويساعد على توسيع السوق بالنسبة للبضائع الاستهلاكية... كما أن في ليبيا صعوبة في إيجاد الأشخاص الصالحين لملء وظائف من النوع الذي تشغله المرأة في معظم البلدان كالممرضات والمدرسات.. لابد من عدد وفير من الطبيبات ومراكز العناية بالأمهات، فالتمريض تقوم به راهبات إيطاليات"!