ما قال أحدٌ إنّ تَزَعْزُعَ الاستبداد وأنظمته في أقطار الوطن العربي، سوف يُنهي الأُصولية أو ثقافة الهوية وممارساتها المتشدّدة. لكنّ المراقبين الأجانب الذين أصرُّوا لأكثر من شهرٍ بعد اندلاع الانتفاضتين بتونس ومصر، على أنّ الأصوليين الإسلاميين هم القائمون بهذه التحركات الشعبية أو المستفيدون منها، عادوا لينعوا على "المتفائلين" من العرب والمسلمين، تسرُّعهم في اعتبار التغيير حاصلاً، ومبالغتهم في تقدير "مدنية" الشبان الثائرين، وضخامة نجاحاتهم. وهم عندما ينصحون بالتواضُع والتريُّث يذكرون الصعوبات المحيطة بالحالتين التي تجري الآن في ليبيا واليمن . لقد أنفقْنا نحن المراقبين العرب حوالي العقدين، في جدالٍ مع الباحثين الاستراتيجيين الغربيين بشأن البراديغم الذي افترضوه لاستثنائية الإسلام واستثنائية العرب والاستعصاء السائد في دينهم وثقافتهم ووعيهم على الديمقراطية وعلى التنوير وعلى التقدم. وما بلغ بنا التجاهل والإنكار إلى حدود الذهاب إلى أنّ الظاهرة الأُصولية تسبَّب بها الغربيون أو تسبّبت بها الأنظمة الاستبدادية. وإنما الذي كنا وما نزال نذهب إليه أنّ "الظاهرة" واحدةٌ، وإن تكن متعدّدة الأوجُه. فالوعي المتشدّد والرافض، والاستبداد الأمني المستشري، والثُنائيات المتضادّة المنتشرة في أوساط الشباب، والتعامُلات الدولية مع منطقتنا وشعوبنا؛ كلُّ ذلك وجوهٌ متعددةٌ لظاهرةٍ واحدةٍ، هي ظاهرةُ التأزُّم في الفكر والسلوك والممارسة. وقد قلتُ لهنتنغتون في نقاش بهارفرد وآخر بالرياض (في مهرجان الجنادرية) إنّ نجاحاً واحداً بارزاً في قضيةٍ معيَّنةٍ دالّة بالنسبة للعرب في فلسطين أو في مصر أو في سوريا، كفيلٌ بأن يُدخل على مخاض التأزم العنيف، والمستمر لعدة عقود، عناصر إيجابية تؤثّر في الوعي وتؤدي إلى مُراجعة الحسابات لدى أوساطٍ واسعةٍ من شبابنا. وقد كان الخطِر والخطير أنّ البراديغم الغربي أو الفكرة المتجذرة بشأن عقليتنا وإنسانيتنا (أو لا إنسانيتنا!) سرعان ما تحوَّلَ منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلى سياساتٍ لدى الأميركيين ولدى الأوروبيين والروس والصينيين والهنود، تجلّتْ باتجاهين: اتجاه فرض الهيمنة بالحرب أو بما يفوقُها فظاعةً لحفظ المصالح، ولتنجية العالم من شرّنا، واتّجاه إعانة المستبدّين على الاستمرار في السطوة والطغيان إن تعاونوا معهم، لأنّ الأسوأ سوف يحدث لا محالة إنْ زال هؤلاء، بسيطرة الأصولية الإرهابية في البلدان التي تغيبُ عنها أنظمةُ المستبدين! في الاتجاه الأول أعطونا درساً نموذجياً بما فعَلوهُ مع صدّام حسين ومع العراق، أو لنقل إنهم أعطَوا المستبدّين الآخَرين أيضاً ذاك الدرْس. وفي الاتجاه الثاني حدث التلاؤم والتعاوُنُ بينهم وبين حُكّامنا العسكريين في سائر النواحي لمصارعة "القاعدة" والإرهاب، وحبس الإسلاميين الذين يمكن أن يتحولوا إلى إرهابيين عنيفين، في قماقم المعتقلات وممارسات الملاحقة والاضطهاد. أمّا في ديارهم هُمْ فقد اصطنعوا قوانين لا أول لها ولا آخِر من تحريم الحجاب على الفتيات واللحى على الشبان، إلى مِنْع بناء المآذن حتّى لا تُشوِّه منظر المُدُن والدساكر. وكُلُّ ذلك وهُمْ يجترحون وُجوه تعاوُنٍ ومودّة مع القذافي وبن علي وعسكريي الجزائر و"إسلاميي" السودان: "لتجفيف منابع الهجرة إلى بلدانهم العامرة" من جانب أولئك البؤساء الذين يحاولون التملُّص مما هم فيه لدى المتحضّرين من حكّامهم الذين يحبون الغرب والغربيين، ويمنُّون على الغرب وعلينا بإجراءات التحضير والتمدين والتقدم والتي لا تستوي بدونهم! وخيَّبَ هؤلاء الشبان الأشاوسُ يقين السادة الغربيين والشرقيين، كما فاجأوا حكّامهم الخبراءَ بهم منذ عقودٍ وعقود. لقد اتجهوا بأعدادٍ هائلةٍ إلى الشارع ليغيّروا سِلْماً، حياتَهم وحياة بلدانهم، وبالقيم ذاتها التي كان الغربيون وكان الحكّام لا يتوقّعون أن تكونَ موجودةً في أخلادهم وعزائمهم. وفي البداية، رفض الحكّام، وهذا طبيعي، لكنْ رفض الغربيون أيضاً ما شاهدوه على شاشات الفضائيات. وقالوا كما قال المتسلِّطون إنّ هذا السِلْم المُشْرق في الميادين المقفرة من قبل حيلةٌ من حِيَل الإسلاميين للاستيلاء على السلطة. وعندما تمادت تلك الظاهرةُ الهائلةُ والتي نسبتْها وسائلُ الإعلام الرسمية في مصر وتونس إلى "الإخوان"، وينسبها القذافي إلى "القاعدة"، وعلي عبدالله صالح إلى إسرائيل وأميركا... راحوا ينصحون الحكام بالتغيير، وينصحوننا نحن الذين رحّبنا بحيوية الشباب ومسؤوليتهم، بالتريُّث وانتظار النتائج وما تؤول إليه الأُمور. إنّ الذي حصل ويحصل ما كان انفجاراً ولا تمرداً يائساً، كما توقع الكثيرون؛ بل بابٌ واسعٌ وشاسعٌ انفتح بالأمل على المستقبل. والغربيون الذين ألِفوا الاستعمارين القديم والجديد، وردات الفعل عليهما، لا يسرُّهم ذلك بل يُحيِّرهُم، لأنّ خبراءهم واستراتيجييهم لا يعرفونه ولم يتوقّعوه. لستُ أزعم أني توقعتُهُ بهذا الحجم والاتّساع. لكني كنتُ على يقين بأنّ شباننا، المتدينين وغير المتدينين، لا يختلفون عن سائر البشر في حبّهم للحرية وتَوقهم إلى الحصول عليها وممارستها. كما لا أزعُمُ أنّ هذا الباب الذي انفتح على مصراعيه سوف يُنهي ظواهر التشدُّد والانكماش. بيد أنّ عناصر جديدةً دخلت على الموقف، وتتمثل في الإقدار والتمكين الذي يحصُلُ الآن، والذي يجعلُ من "سيد قطب" و"بن لادن" أثراً من الماضي، تضاءلت أسبابُهُ أو هي في طريقها للزوال. فالذي يستطيع المشاركة في العملية السياسية الجديدة بالوسائل السلمية، لماذا يلجأ للقوة. أمّا الذين يرفضون التعلُّم؛ فإنّ زملاءهم العاملين والمشاركين هم من سيعزلهم ويضطرهم للانكفاء؛ إن لم يكن ذلك قد حصل بالفعل. ثم إني أزعُمُ أخيراً أنّ عمليات "بناء الدول" والتي هدَّمها حكّامُنا على مدى أربعة عقودٍ وأكثر، لا تتمُّ خلال سنةٍ أو سنتين، بيد أنها بدأت ولن تتوقّف، فهذه هي طبيعةُ الأمور. ولا شكّ أنّ تلك العمليات بتونس ومصر، ستكون أسهل منها بالعراق واليمن وليبيا والجزائر والسودان، لأنّ درجات التخريب بهذه البلدان أكبر وأفظع. لكنّ النضال الذي يجري الآن، يُسرّع تآلف واندماج العناصر والفئات التي ما كانت تستطيع التقارُب من قبل. والذي أراه أنّ الصعوبات الأكبر والأفظع أمام العمليات الديمقراطية والوحدوية الجارية، سوف تأتي من الخارج الأميركي والأوروبي والصيني والهندي.. إلخ. فقد بنى هذا الخارج العالمي، في العقود الماضية، أسواراً ثقافيةً واستراتيجيةً عاليةً بيننا وبينه. وهي أسوارٌ قائمةٌ على مصالح، تعوَّدَ ذلك الخارجُ على قضائها مع كلّ مستبدٍ على حدَةٍ وبمنتهى السهولة، وبالعنف أو بالتواطؤ. ثم إنّ هناك "ثقافةً" غربية كاملة نشأت حول الإسلام والعرب خلال العقود الماضية أيضاً، وسيحتاج الغربيون إلى عقودٍ لتجاوُزها، هذا إذا عملوا عليها بجديةٍ لا أجدُها متوافرةً لدى اليمين الأوروبي الحاكم الآن. فقد نعى كلٌّ من ساركوزي وميركل وكاميرون في الشهور الماضية ما أَسموهُ تجربة التعددية الثقافية. وهم يقصدون أنّ العيش مع المسلمين (حوالَي الثلاثين مليوناً بأوروبا) صعبٌ إن لم يكن مستحيلاً! لقد قال لهم أردوغان قبل أيام: أيها الأوروبيون، أنتم ترفضَون الاندماج، وترفضون التعددية، فلا أقلّ من أن تُعاملونا معاملة الأقليات الإثنية، والتي حقوقها أكبر من الحقوق التي تعرضونها علينا بمقتضى المواطنة!