العقيد معمّر القذافي "قائد الثورة الليبية"، انتقد قادة الغرب أوبعضهم على الأقل، لأنهم خذلوه وخانوه! ولم يقل كيف ولماذا؟ أخانوه، لأنهم ديمقراطيون، وهو أصبح ديموقراطيا وأنضم إلى أنديتهم بعد قبوله بشروطهم وتفكيك أسلحته النووية وتسليمه كل المعلومات عنها وعن زعماء وأركان "محور الشر" و"العصابات الإرهابية" في نظر الأميركيين، الذين كانوا يتلقون الدعم من نظام القذافي؟ كيف يمكن لقائد ثورة أن يصّر على مقاومة الاستعمار الإيطالي، والإمبريالية الأميركية التي قصفت ملجأه الحالي في الثمانينات، ويهاجمها، لتعبئة شعبه "الذي يحبه حتى التضحية بنفسه من أجله"؟ وفي الوقت ذاته يلوم هذه القوى ويعتب عليها ويتحدث عن فنزويلا وأميركا اللاتينية عموماً ويتعاطف معه تشافيز ونظام المناضل الكبير فيديل كاسترو؟ هل كان العقيد ينتظر الدعم من الغرب ومن الذين فتح لهم أبواب الاستثمارات النفطية والسياسية والأمنية، في وجه المواطنين الذين يريدون التحرر من القهر والظلم الاجتماعي الذين عاشوهما منذ أربعين عاماً ونيف ولم يروا من الثورة إلا الخطابات الخضراء والكتب الخضراء والساحات الخضراء، ويحصدون اليوم الدم الأحمر، وجثث الأبرياء فيها؟ وما نفع المساعدات والإعانات المالية والعينية في اللحظة الأخيرة بعد سنوات من المكابرة والغرور، وفي ظل الحديث عن ثروات خيالية جنتها عائلة النظام الحاكمة؟ أين الوحدة الوطنية الليبية؟ أين إنماء المناطق، وكرامة الإنسان فيها؟ وما نفع الاعتراف في اللحظة الأخيرة بالأخطاء وبضرورة الحوار بعد أن أضرموا النار في كل مكان، وبعد التهديد بتوزيع السلاح "وتنظيم" حرب أهلية بين القبائل من أجل التمسك بما يمكن أو ينبغي من السلطة؟ لقد كان القائد الكبير الشهيد كمال جنبلاط يقول: "إن السياسة هي فَن قيادة الرجال"، "وهي شرف قيادة الرجال"، وكان مؤمناً بأن المرء يعيش حياته باحثاً عن الحقيقة وليس ثمة نصاعة أكثر من حالة التلازم بين اكتشاف الحقيقة وراحة الضمير. وفي كل الحالات، كانت قناعته الراسخة بأن الإنسان هو غاية كل نضال وعمل وحركة وجهاد... ولطالما ناقش هذا الرجل القادة العرب ومنهم القذافي بهذه المسألة، وبضرورة الانفتاح على الناس، والعمل على رفع شأنهم وتوزيع الثروة بشكل عادل ومحو الأمية وتوفير الحياة الكريمة اللائقة لهم. فأين فن القيادة؟ وأين شرفها؟ اليوم، نتطلع إلى الشاشات فلا نسمع ولا نشاهد إلاّ أصواتاً وتحركات تطالب بالتغيير، بالحقوق، بالحرية وبالديمقراطية، بمكافحة الفساد وبإعادة النظر بآليات الحكم لضمان المشاركة الشعبية الحقيقية. أنا ضد السياسة الأميركية ولا أثق بها، وأعتبر دائماً أنها المسؤولة عن كوارث كثيرة في العالم وخصوصاً في منطقتنا. وأعرف تماماً، أن كل المظاهرات "المليونية" التي شاهدناها لم نرَ فيها شعاراً قومياً وكلاماً عن إسرائيل وأميركا. ولم نسمع هتافات اعتدنا على سماعها مثل "الموت لأميركا" "الموت لإسرائيل".. ومع ذلك لا يمكنني القبول بما خرج به بعض القادة العرب المطالبين بالرحيل وفي لحظات البؤس واليأس الأخير. وفي مواجهة ضعيفة للحقيقة، عندما اتهموا أميركا وإسرائيل بالوقوف وراء هذه التحركات... نعم إسرائيل هي المستفيد الأول. وأميركا مستفيدة وتحاول أن تعوّض فشلها في احتلال العراق وبناء "شرق أوسط جديد" على قياس برنامجها وأهدافها وتطلعاتها فتسعى إلى تحقيق المكاسب مما يجري اليوم في هذا الاتجاه. لكن هذه الحقيقة لا تسقط الحقيقة المرّة والأخطر والأهم وهي أن هذه الأنظمة ارتكبت من الأخطاء ما لا يحصى ولا يعدّ بحق شعوبها وهي اليوم ترتكب الخطايا في مواجهتها... إذا كان المطلوب مقاومة إسرائيل ومنع أميركا من تحقيق أهدافها في المنطقة، فإن ذلك لا يتحقق بالقمع والردع وسفك الدماء والعنتريات وتوزيع السلاح وتفتيت الدول وهذا هو المشروع الإسرائيلي الأميركي. نعم الخطر اليوم لم يعد في صراع طائفي في دولة من دولنا بل انتقل في مرحلة إلى خطر الصراع المذهبي، ونحن نراه اليوم صراعاً قبلياً مناطقياً عشائرياً سيفتت كل شيء، ولا نرى بين القادة المعنيين من يعمل فعلاً على مواجهته، بل لا تدّل مواقفهم وممارساتهم إلا على سلوك طريق هذا المشروع والبعض منهم بملء إرادته. المهم البقاء في السلطة ولو على "كرسي" عزيز في "العزيزية", أو غيرها، حتى ولو انقسمت الدول والسلطات. إنها الفوضى التي سنعيش في ظلها لوقت طويل حتى تستقيم الأمور. وهذه تشكل فرصة استثنائية لإسرائيل وأميركا وكل الذين يريدون ثروات وخيرات وإمكانات وطاقات و"ثورات" هذه الأمة!