إلى ما قبل اندلاع حراك الشعب الليبي الأخير ضد نظام الحكم السائد في البلاد منذ 42 عاماً، كان المهيمنون على النظام يعتقدون بأنهم حققوا التنمية السياسية المنشودة لليبيا من خلال الإمساك بعناصر التنمية الرئيسية الثلاثة وهي السيطرة والتعبئة السياسية والقدرة على النجاة من الغضب الاجتماعي المتولد عن برامجه التعبوية. وإلى حد بعيد يمكن القول بأن المسؤولين عن النظام السياسي نجحوا ظاهرياً في خلخلة الأسس التقليدية والاجتماعية والثقافية للمجتمع الليبي. لكن ذلك لم يكن نجاحاً حقيقياً حيث فوجئوا بأنهم غير قادرين على السيطرة على القوى والأسس الاجتماعية والثقافية الكامنة في أعماق ضمائر الليبيين، خاصة تطلعاتهم نحو الحرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتنمية مجتمعهم على أسس شبيهة بما لدى أمم وشعوب الأرض الأخرى انطلاقاً من عروبتهم ودينهم. المسؤولون عن النظام الليبي ربما كانوا يعتقدون بأنه لا توجد تساؤلات حول سيطرتهم القوية على مقدرات ليبيا البشرية والمادية. وهنا إذا ما كانت السيطرة خلال الاثنين والأربعين عاماً المنصرمة تقاس عن طريق غياب العصيان المدني على سبيل المثال، يمكن القول بأن النظام الحاكم لم يواجه إضرابات أو مظاهرات أو اضطرابات أو أي نوع آخر من التعبير المرئي لوجود معارضة منظمة جيداً. وأما إذا ما قيست السيطرة في صيغ من القبول السلبي بالبرامج التي يطرحها النظام الحاكم يمكننا القول أيضاً بأن جميع مؤسسات النظام سواء كان ذلك مؤتمر الشعب العام أو المؤتمرات الأولية أو اللجان الثورية أو الوحدات العمالية التي تدير ذاتها، كانت فعلاً تعقد اجتماعاتها وتطرح برامجها كما هو مخطط لها من قادة النظام السياسي. لكن المسؤولين عن النظام فاتهم، وهي ملاحظة تم التنبيه بها من قبل محدثكم في أحد المؤتمرات العلمية لجامعة لندن البريطانية 1986، بأن ما كان يبدو لهم سيطرة كاملة ليس سوى أمر مشكوك فيه، إن لم يكن زائفاً. وقد لامني الكثيرون على ذلك بدعوى التشكيك في "الثورة" الليبية. وهذه النقطة ربما تكون غير مهمة بقدر أهمية أنه رغم ملاحظة الكثيرين بأن المسيطرين على النظام السياسي الليبي، كانوا يمسكون بمفاصله جيداً، إلا أن الفكرة التي كنت أطرحها هي أن برامج النظام الحاكم كانت تمس المجتمع الليبي في صميم تكوينه إن لم تكن تهاجمه. كان النظام يقول بأنه قضى على القبلية وحيَّد القبائل عن ارتباطاتها التقليدية -رغم أنه ظهر علينا في الأيام الأخيرة ليقول بأن المجتمع الليبي قبلي- وأنه خلق في البلاد نظاماً اقتصادياً اشتراكياً كاملاً، وأن ممارسة الإسلام بالطرق التقليدية قد تم تغييرها راديكالياً إلى ممارسة ثورية للإسلام ترتكز على التفسيرات الشعبية القائمة على فهم الأفراد الشخصي لتعاليم الدين. والنقطة الأخيرة ربما تكون أهم ما جعل الليبيين غاضبين في أعماقهم دون أن يظهروا ذلك في المراحل الأولى. ويضاف إلى ذلك نوع البيروقراطية التي اخترعها النظام لنفسه لكي يضمن من خلالها ولاء الشعب الليبي له. والواقع أن الحديث عن دور البيروقراطية في ليبيا لا يمكن اختزاله في أسطر قليلة، لكن ما حدث هو أن البيروقراطية هي التي كانت تقوم بتنسيق كافة النشاطات الاقتصادية، الأمر الذي ولد مرتعاً خصباً للفساد الإداري والمالي استفاد منه وبشكل كامل المسيطرون على النظام والمقربون منهم، وأضر كثيراً بمصالح الشعب. خلاصة القول هي إن من سيطروا على ليبيا خلال العقود الأربعة الماضية أخطأوا في فهم جوهر الشعب الليبي المعتز بعروبته ودينه، وحاولوا جره وإنفاق أمواله إلى قضايا خاسرة داخلياً وخارجياً لا ناقة له فيها ولا جمل، فكان ما كان من ثورة شعبية عارمة.